في إحدى دورات القمة العالمية للحكومات، كان مدير البنك الدولي مدعواً للحديث، وكان أهم ما قاله إن المنطقة العربية تشهد إنفاقاً كبيراً على التعليم، والمفارقة في هذا الإنفاق أن العائد من ورائه ليس على قدر ما يجري إنفاقه بالفعل.
وحين سألوه عن تفسيره لذلك، قال ما معناه إن العبرة ليس بحجم الإنفاق على التعليم، ولكن بوجود هدف واضح وراء هذا الإنفاق، وإلا فإن الإنفاق بغير هدف يجعل صاحبه كالشخص الذي يوكل المحامي الخطأ في قضيته، فيخسر نقوده ويخسر القضية.
صحيح أن الإنفاق السخي على التعليم مطلوب في كل الأوقات، وصحيح أن الدول التي خطت خطوات إلى الأمام هي الدول التي خصصت ميزانية معتبرة للتعليم، ولكن الأصح من ذلك أن الإنفاق على التعليم في مثل هذه الدول كان ضمن برنامج عمل، وكان يعرف من أين يبدأ وأين بالضبط ينتهي ؟
وهذا على وجه التحديد ما تتعامل على أساسه دورات القمة المتتالية مع قضية التعليم، ومع قضية الصحة، منذ إطلاقها قبل 10 أعوام.
فالقمة لا تتعامل معهما على هذا الأساس وفقط، ولكنها لا تترك دورة تمر إلا وتجعل التعليم والصحة على رأس أولويات النقاش في قاعاتها المختلفة، ففي قمة هذه السنة على سبيل المثال، تجد الرعاية الصحية ومستقبل المجتمعات على رأس محور من محاورها، ثم تجد التعليم وفرص العمل كأولوية لدى الحكومة على رأس محور آخر من المحاور.
والقمة تفعل ذلك عن إيمان بأن الرعاية الصحية الجيدة، وخدمة التعليم الجيدة، هما مدخل كل أمة إلى هذا العصر الذي نعيشه، وهما مفتاح التعامل مع العصر، ومع قضاياه، ومشكلاته، وكذلك مع مقتضياته.
ولا تزال القمة تحرض الحكومات في كل دورة على أن تنفق على التعليم وعلى الصحة، تحرضها لتفعل ذلك وهي مطمئنة إلى أن ما تنفقه لا يضيع في هذا المجال بالذات، وأن الاستثمار في البشر لا يساويه ولا يوازيه استثمار آخر، وأن الاستثمار في الصحة وفي التعليم هو استثمار في مكانه الصحيح.
وقد قيل على الدوام ولا يزال يقال، إن أفضل طريقة لتوزيع الثروة القومية بين المواطنين في أي دولة، هي إتاحة فرص تعليم أفضل أمامهم جميعاً، لأن المواطن المتعلم هو مواطن قادر على أن يجد موقعاً في سوق العمل، وهو مواطن قادر على أن يوظف قدراته في موقعها الذي يجب أي يجري توظيفها فيه.
ولذلك لم يبالغ «لي كوان يو» الذي أسس سنغافورة، ونقلها من أرض كانت تمتليء بالمستنقعات، إلى دولة تشتهر بأن مواطنيها يحصلون على متوسط دخل من بين الأعلى في العالم.
لم يبالغ حين سألوه عن السر الذي استطاع به بناء بلاده على هذا النحو الفريد، والذي جعل لسنغافورة هذه المكانة.
لم يفكر لي كوان يو كثيراً في الإجابة، ولم يستغرق الأمر معه الكثير من الوقت ليعثر على إجابة يقتنع بها الذين سألوه، فقال على الفور ما يعني أنه لم يكن هو الذي فعل ذلك، ولم يكن هو الذي بنى بالشكل المباشر، وأن كل ما فعله من جانبه أنه بنى المواطن السنغافوري، ليتولى هذا المواطن نفسه في مرحلة لاحقة بناء سنغافورة الغنية.
هذا المعنى الذي أوجزه مؤسس سنغافورة في كلمات قليلة، لا يغيب بالتأكيد عن إدارة القمة العالمية للحكومات، ويجعلها تستحضر قضيتي الرعاية الصحية والتعليم في دوراتها المتعاقبة، لا لمجرد استحضارهما، وإنما لأنهما السر في نهضة الأمم.
نقلا عن البيان