الربيع الهولندى – الحائط العربي
الربيع الهولندى

الربيع الهولندى



قبل أيام وأثناء متابعة نشرة الأخبار الدورية لوكالة رويترز للأنباء، جاء البث من أمستردام ولاهاى ومدن هولندية أخرى، كانت جميعها مشتعلة بمظاهرات كثيفة من الشباب الهولندى، مختلطا بجماعات شبابية أخرى ربما جاءت من دول أوروبية مجاورة. بداية كانت هولندا أولى الدول الأوروبية التى زرتها فى حياتى، وكان الوقت شتاء وربيع عام ١٩٧٧، وظلت ذكريات هذه الزيارة ماثلة بما كان فيها من إعجاب بالرصانة الحضارية والزهور الدائمة والانضباط الموسيقى فى كل تفاصيل الحياة. ما بدا على شاشة «الآيباد» كان شيئا مختلفا تماما عما عرفته فى الماضى، أما ما عرفته فى الحاضر فهو تلك المشاهد التى عرفناها فى المنطقة خلال السنوات العشر الماضية وعرفت فى الغرب بالربيع العربى. عناصر الربيع باتت معروفة حيث توجد حالة كبيرة من الكثافة الجماهيرية، ومعظمها من الشباب المجمل بلافتات بلغات أجنبية لمخاطبة العالم، طالما أن المظاهرة ليست محلية، وتتخللها أغان وموسيقى وأهازيج خاصة، وكل ذلك مغلف ومدفوع بقدر هائل من الغضب. ولا يلبث ذلك كله أن يتحول إلى حالة هائلة من الفوضى تصطدم بالشرطة التى تستخدم الغاز المسيل للدموع، وبعدها يجرى إشعال النار فى إطارات السيارات، والسيارات ذاتها، وكل ما توفر على جانب الطريق أو فى قلبه من محتوى للقمامة. لم يكن فى الشعارات المرفوعة فيما ترجمت دعوة لإسقاط النظام، أو إلغاء الملكية، ولا الدعوة لإباحة الحشيش أو المارجوانا أو الحرية للمثليين، حيث إن ذلك متاح بالفعل. كان الموضوع الأساسى للثورة الهولندية هو مقاومة الاحترازات التى قررتها الحكومة مرة أخرى لمنع انتشار داء الكورونا، حيث باتت أوروبا كلها تقريبا رهينة الموجة الخامسة من البلاء، ومعها فرض اللقاحات على الجميع.

الحقيقة أن الربيع الهولندى منتشر فى عدد من العواصم الأوروبية، وهو شبه دائم فى ولايات أمريكية عدة، والسبب هو أن «الجائحة» لا تزال مستمرة. ولكن الجنس البشرى أصبح أفضل حالا مما كان عليه فى بدايات عام ٢٠٢٠ عندما تكشف الكثير عن غياب المعرفة بالفيروس، وأكثر من ذلك ما الذى يجب عمله لمواجهته. وبعد فترة زمنية تقترب من العامين فإن العالم الآن لديه لقاحات، وأكثر من ذلك أشكال من العلاجات الخاصة بالمرض، فضلا عن أدوية أخرى مركبة فى بروتوكولات ساعدت فى كثير من حالات الشفاء. ولا يقل أهمية عن ذلك كله أن الأطقم الطبية فى دول العالم، ومعها المطارات والموانئ وأماكن كثيرة للتجمع، باتت أكثر تدريبا على التعامل مع واقع صعب لا بد فيه من تقييد الحرية الفردية. هنا تحديدا كانت ثورة الشباب الهولندى الذى ضج بعد صيف من الحرية من إعادة فرض القيود مرة أخرى على أماكن اللهو، والتجمعات الكبيرة فى الأسواق، والتقاليد المتعددة للتلامس الإنسانى. ولم يكن هناك حل آخر بعد التدريب خلال شهور طويلة إلا فرض اللقاح على جميع السكان حتى يمكن استمرار النظام الاقتصادى أولا، وحتى ثانيا يمكن تحقيق الاستقرار للمعتاد الجديد الذى جاء بعد وفيات قدرها أكثر من خمسة ملايين نسمة فى كوكب الأرض.

القضية هكذا باتت الحرية فى مواجهة تدخل الدولة فى تفاصيل حياة الأفراد؛ وهو تدخل لا بد منه لأن الفرد هنا لا يمتلك حريته فقط وإنما معها مصير آخرين أعدادهم أحيانا هائلة. ومن الطبيعى هنا، وكما تقرر خبرة الربيع الثائر فى كل مكان، أن الشباب يخلق منظومات فكرية تبرر التظاهر والصدام والحريق وتجعل من الربيع ثورة. منها أن الدولة لا بد مخطئة فى كل الأحوال، وأن ذلك على الأغلب لخدمة مصالح خاصة فى مقدمتها شركات الدواء التى تروض الساسة فى الأحزاب والبرلمانات، وأنه من الجائز أن يكون ذلك تعبيرا عن مؤامرة كونية وراءها جماعة يقرر المجتمع أنها تتآمر عليه حسب الدولة وموقعها وثقافتها. وهناك دائما مؤامرة للمهاجرين وأخرى لليهود وثالثة للشركات العالمية الكبرى، ورابعة للولايات المتحدة وكفى، وخامسة لجماعة سرية لها أديان غريبة، تريد إدارة حركة الكون والفيروسات حتى يصير ما نشاهده فعلا مجرد فصل من فصول مسرحية أو مشهد طويل مفزع فى فيلم رعب سينمائى. الربيع الهولندى والأوروبى والأمريكى كذلك- كما حدث مع «الربيع العربى» من قبل- ليس صيحة للتغيير الذى تتحدى فيه أجيال ما كان قبلها، ولكنه صيحة ليس فقط لإعطاء الفيروس الحرية اللازمة للحركة، وإنما أكثر من ذلك تهديد قدرة الدولة على تنظيم وحماية حياة الأفراد المواطنين من غائلة مرض ومن رعونة شباب. هو ربيع ليس فيه لا نسمة ولا زهرة؛ هو فى جوهره الطريق إلى جائحة المجهول.

نقلا عن المصري اليوم