الدول الخليجية العربية أعادت اختراع نفسها بموقع مميّز في موازين القوى العالمية – الحائط العربي
الدول الخليجية العربية أعادت اختراع نفسها بموقع مميّز في موازين القوى العالمية

الدول الخليجية العربية أعادت اختراع نفسها بموقع مميّز في موازين القوى العالمية



اتَّسع البيكار الديبلوماسي الخليجي في الحسابات الأميركية والأوروبية لكيفية التعاطي مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية وانقلبت المعادلة في المسألة النووية. في الأمس كانت المفاوضات النووية مع إيران في فيينا تضم الولايات المتحدة والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا بمشاركة الاتحاد الأوروبي باستبعاد متعمَّد للدول الخليجية العربية بذريعة أن هذه مفاوضات حصراً نووية لا مكان فيها للمسائل الإقليمية.

اليوم، تتوجه الإدارة الأميركية إلى السعودية كي تساعدها في الملف النووي الإيراني الذي انحسرت أهميته كأولوية غربية وحلّت حرب أوكرانيا مكانها. أوروبا اعترفت بأخطائها وإصرارها على الانبطاح أمام شروط طهران رافضة إدخال العنصر الإقليمي في المفاوضات النووية، وها هي اليوم تلجأ الى السعودية والدول الخليجية الأخرى لتساعدها في معالجة النزاعات في القارة الأوروبية وتترك لها الحكمة في التطرق الى الملف النووي الإيراني. زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الى باريس هذا الأسبوع تسلّط الأضواء على الحاجة الأوروبية الى الأدوار السعودية التي تتعدّى مسائل الشرق الأوسط وتتناول المسائل الأوروبية وهي تأتي في أعقاب الإقرار الأميركي بمحورية القيادة السعودية، اقليمياً ودولياً.

الانتخابات الرئاسية تشغل بال الأميركيين والروس، مع اختلاف التجربة الانتخابية وشروطها وقواعد اللعبة. واضح أن المعركة الانتخابية في الولايات المتحدة قد بدأت وتداعياتها ستؤثر في الصين وروسيا وأوروبا والشرق الأوسط وسواها. حتى اليوم، وبالرغم من كثرة المرشحين للحصول على الترشيح الجمهوري للرئاسة، يبدو ان بطلي المعركة الانتخابية هما الرئيس الديموقراطي جو بايدن والرئيس الجمهوري الأسبق دونالد ترامب.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو المرشح الوحيد للرئاسة الروسية بغض النظر عمّن سيُسمَح له بدخول الحلبة لاحقاً. وبالتالي، مع حلول ربيع 2024، وإذا لم تغيّر الحرب الأوكرانية جذرياً مجرى التاريخ، فإن المعركة الرئاسية الأميركية- الروسية ستحدد الكثير من مستقبل العالم.

الصورة قاتمة في العلاقات الأميركية- الروسية باستثناء تطور وحيد هو إعلان واشنطن وموسكو هذا الأسبوع أنهما اتفقتا على مواصلة تبادل الإخطارات حول التدريبات الرئيسية للقوات الاستراتيجية، وأنهما مصمِّمتان على الالتزام بالقيود المتعلقة بكمية الأسلحة التي وردت في معاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية (ستارت3). هذا الى جانب مواصلة تبادل الإخطارات المتبادلة بشأن إطلاق الصواريخ البالستية الأرضية العابرة للقارات والصواريخ البالستية التي تُطلق من الغواصات.

هذه تطمينات مهمة وسط الاضطراب في العلاقات والتطورات المتعلقة بالحرب الأوكرانية تترافق مع تأكيد الناطقة بإسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، أن استخدام روسيا الافتراضي للأسلحة النووية يرتكز الى ظروف استثنائية ودفاعية فقط. وقالت إن “السياسة الروسية في مجال الردع النووي ذات طبيعة دفاعية بحتة، والاستخدام الافتراضي للأسلحة النووية يقتصر بوضوح على حالات الطوارئ في اطار دفاعي بحت”. أضافت أن روسيا ملتزمة مبدأ عدم جواز حرب نووية و “لا يمكن أن يكون هناك رابح في هذه الحرب، ولا يجوز السماح بنشوبها”. وأكدت أن معاهدة ستارت3 التي قامت موسكو بتعليقها يمكن إعادة النظر في قرارها “فقط إذا أظهرت واشنطن الإرادة السياسية وبذلت جهوداً لتقليل التوترات، وخفض التصعيد، وتهيئة الظروف لاستئناف العمل الكامل للمعاهدة”. إنها، إذاً، تطمينات مشروطة.

لعل خطاب الرئيس فلاديمير بوتين في منتدى سان بطرسبرغ يشكّل برنامجاً انتخابياً لطموحاته الرئاسية لأن في طياته مشروعه البعيد المدى للحرب الأوكرانية. الحرب مستمرة لفترة طويلة إنما ما تتساءل حوله القيادات الغربية هو إن كان بوتين ما زال يعتقد أن في وسعه تصفية أوكرانيا كدولة أو إذا كان اتخذ قراراً حول الحدود التي يقبل بها للجيش الروسي في أوكرانيا.

هذا القرار أو التصوّر مهم على طاولة رسم السياسات الأميركية، ليس فقط لأنه محوري في العملية الحربية وإنما لأنه ضروري في معادلة الحملات الانتخابية الرئاسية. في الولايات المتحدة، سيكون بوتين حاضراً في المعركة على الرئاسة الأميركية. وفي روسيا سيكون بايدن وترامب عنصرين أساسيين في حسابات الرئاسة الروسية.

هناك إذاً نوع من التزامنية Synchronization بين الانتخابات الرئاسية الأميركية والروسية بحسب تعبير أحد كبار المعنيين بدراسة هذه التزامنية. ثم أن هذا الترافق بين الاستحقاقين الرئاسيين سيعطي للعالم فكرة عما إذا كان في الأفق أيّة فرصة لتحسين العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة التي تقود المعسكر الغربي، أو إن كانت العلاقة قد دخلت نفق المواجهة بلا مخرج، حتى وإذا فاز ترامب بالرئاسة الأميركية.

لماذا الأمر مهم الآن؟ لأن مرحلة التحضير قد بدأت لشتّى السيناريوات. ولماذا الأمر ليس حصراً ثنائياً؟ لأن عالم اليوم اختلف كلياً مع بدء الحرب الأوكرانية وهناك اليوم حاجة إلى لاعبين غير تقليديين كانوا بالأمس القريب يُعتَبرون هامشيين والآن أصبحوا لاعبين لهم أدوار فائقة الأهمية. السعودية أحدهم ومن بين أهمهم، وكذلك دول خليجية أخرى تشمل الإمارات وقطر باتت مهمة للولايات المتحدة وأوروبا ليس بسبب النفط والغاز حصراً كما جرت العادة، وإنما لأن البيكار الدبلوماسي الخليجي يؤخذ جديّاً في الحسابات السياسية الأميركية والصينية والروسية والأوروبية.

مشهد اليوم هو أن الجميع يستعد للأسوأ على الأصعدة العسكرية والاقتصادية والمالية بسبب تدهور العلاقات بين روسيا والدول الغربية. ليس هناك حزام أمان. هناك حاجة لحشد الدول ذات الإمكانات والتأثير والتي لها وزن في الاصطفافات.

في الماضي وأثناء الحرب الباردة، كان لدول عدم الانحياز، ككتلة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، أهمية مميزة في استراتيجيات الاستقطاب لكل من واشنطن وموسكو. اليوم، لم تعد هناك أهمية لكتلة عدم الانحياز والتي كانت دولها في الواقع منحازة بين القطبين.

إن الأهمية اليوم هي لدول ذات اقتصاد كبير وذات تطور علمي وتكنولوجي ومؤسساتي مثل الهند والبرازيل وأفريقيا الجنوبية وتركيا. السعودية دخلت ذلك النادي ومعها الإمارات وقطر. مصر ستبقى دولة عربية مهمة، لكنها تنتمي الى زمن كتلة عدم الانحياز وليس الى معادلة اليوم والحسابات الاستقطابية لواشنطن وموسكو وبكين والعواصم الأوروبية.

زيارة الأمير محمد بن سلمان الى باريس لم تقتصر على بحث الملفات الثنائية وإنما كانت أوكرانيا جزءاً أساسياً منها بينما قبل سنوات قليلة انحصر الحديث في مسائل الشرق الأوسط. فرنسا هي التي طلبت المساعدة السعودية في إنهاء الحرب الأوكرانية، الأرجح نيابة عن الدول الأوروبية. لم تقتصر أجندة ولي العهد السعودي على القضايا السياسية وإنما ركزت زيارته برفقة وفد رفيع المستوى على ترشيح الرياض لاستضافة “إكسبو2030″، وعلى قمة “من أجل ميثاق مالي عالمي جديد” التي ستعقد في باريس يوميّ 22 و23 من الشهر الجاري.

هي اللغة الجديدة للسعودية ولدول الخليج العربية التي تنسّق أدوارها لإثبات مكانتها ووزنها على خريطة الاقتصاد والتنمية والرؤيوية والمؤسساتية والديبلوماسية العالمية.

ليس أمراً عابراً ان دول مجلس التعاون الخليجي تؤدي دوراً محورياً في العلاقات الأميركية والأوروبية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

عُمان، عاصمة الدبلوماسية الهادئة وراء الكواليس، باتت أساسية لكل من الولايات المتحدة وإيران وهي تسعى وراء تفعيل مفاوضات إحياء الاتفاق النووي الإيراني بين طهران والقوى العالمية، إنما هذه المرة بوجود الدول الخليجية العربية وعلى رأسها السعودية.

وزير الخارجية العُماني بدر البوسعيدي قال إن الولايات المتحدة وإيران تقتربان من وضع اللمسات النهائية على اتفاق بشأن إطلاق سراح أميركيين محتجزين في طهران. وبحسب المواقع الإخبارية، هذا جزء من معادلة الإفراج عن أصول إيرانية بمليارات الدولارات مجمّدة في بنوك كوريا الجنوبية بسبب العقوبات الأميركية، على أن تُستخدم الأموال لأغراض إنسانية. الإمارات، وقطر أيضاً، تؤديان دوراً بين الولايات المتحدة وإيران وكذلك السعودية، مقابل إقناع طهران بعدم تجاوز تخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية.

روسيا خرجت من معادلة 5+1 في رأي الدول الغربية، إشارة الى الدول التي فاوضت إيران في محادثات فيينا. الصين باقية وهي ذات أهمية بالغة في جهود احتواء التخصيب الإيراني لدرجة اقتناء القنبلة الذرية. عملياً، إن السعودية والدول الخليجية المعنية الأخرى حلّت مكان روسيا على طاولة المفاوضات النووية مع إيران بلغة الديبلوماسية الجديدة.

فالدول الخليجية أعادت اختراع نفسها وفرضت نفسها على الطاولة العالمية، والدول الغربية والشرقية على السواء أخذت عِلماً بذلك. وهذا هو الجديد.

نقلا عن النهار العربي