تبلورت فكرة الدولة القومية فى أوروبا فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر عندما كانت الإمبراطوريات تتفكك، وقد أقبل المثقفون الإيطاليون والألمان على دعم السياسيين الذين كانوا يسعون لاستعادة وحدة كلٍ من إيطاليا وألمانيا. والفكرة التى أثارت نزاعاتٍ هائلةً فى منطقة البلقان على وجه الخصوص بسبب كثرة الإثنيات فيها – أنّ من حق القومية ( الصافية) والتى تشكّل أمةً أن يكون لها دولة مهما صغرت. ومع أنّ الحربين الأولى والثانية أثارتهما القوميات المتعصبة؛ فإنّ الدعوة القومية لم يخف وهجها وبخاصةٍ فى الأقاليم والبلدان التى كانت تسعى للاستقلال والخروج من أسْر الاستعمار أو غلبة الإمبراطوريات المتساقطة. فقد طالب الرئيس الأمريكى وودرو ويلسون (1918) بحق تقرير المصير للشعوب والإثنيات المستعمرة أو المغلوبة على أمرها. وعندما قامت الأمم المتحدة عام 1945 تكونت من وحدات أو دول قومية مستقلة.
فى حقبة ما بين الحربين كانت الدعوة القومية العربية قويةً لثلاثة أسباب: الثقافة الواحدة التى تتمثل بلُغةٍ واحدة، والسبب الآخر أنّ عدة شعوبٍ عربيةٍ كان يتملكها الإحساس بأنّ الانتماء العربى سيمكّنها من الخروج من الاستعمار، ومن تلاعب المستعمرين بحدودها ومصالحها ومصائرها. أما السبب الثالث فكان وجود دول عربية قوية تخلّصت من الاستعمار، وأنشأت الجامعة العربية وفى طليعتها مصر والمملكة العربية السعودية، وساعدت الدول والبلدان الأخرى فى الخلاص من الاستعمار، وتحقيق الاستقرار.
لماذا هذه المقدمة فى نشوء الدولة القومية؟
لأنّ هناك ثلاث دول فى المنطقة العربية مشرقاً ومغرباً: ظلّت عماد الجامعة وامتلكت رؤيةً واقعيةً للدولة ومصائرها فى العالم العربي. والدول الثلاث هى مصر والمملكة العربية السعودية والمملكة المغربية. ساعدت تلك الدول شقيقاتها فى مرحلة الاستقلال، ثم ساعدتها فى الاستقرار والتنمية. وفى حين اكتسبت تلك الدول العريقة بالتجربة رؤيةً واقعيةً للإقليم والعلاقات الدولية، ظلّت دول الأيديولوجيا القومية الراديكالية تسمّى كلَّ الكيانات القائمة دولاً قطرية، أى محلية وانقسامية. وفى النهاية تهدّدت الأيديولوجيا القومية وهدّدت البلدان المسيطرة فيها. وتقسم البعض أو تصدع أو فقد سيادته؛ فإنّ الدول الوطنية الراسخة شأن مصر والسعودية، ظلّت عماد الاستقرار، وهى التى تلتفت لدعم الكيانات الأُخرى ورعاية وحدتها واستقرارها بدون دعاوى كبرى لجهات الفتح والاستيلاء على جوارها العربى وهى هشةٌ بالداخل.
عندما حدث زلزال العام 2011 وانتشرت الفوضى فى نواحٍ والتنظيمات المسلحة فى نواحٍ أُخرى، قلت فى محاضرة بمركز «الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية: كنا نخاف من الدولة ونحن الآن نخاف عليها. ما كنا نخاف على الدولة القومية التى لم تقم، بل على القواعد الراسخة وفى طليعتها مصر والتى تدخّل جيشها الوطنى ومجتمعها المدنى اللذان حفظا العراقة والاستقرار والوحدة. وهذا معنى دخول الدولة الوطنية العربية فى طورٍ جديدٍ أساسه المواطنة والتنمية المستدامة، والسيادة، والعلاقات المتوازنة مع العالم. لقد كانت معظم هذه العوالم أو العناصر متوافرة فى معظم الدول العربية على أثر الاستقلال، ثم حدث الاختلال فى دول الأيديولوجيا، وفى الكيانات التى وقعت فى التبعية.
ورغم الخراب المشهود فى عدة دولٍ عربية، وسوء الأوضاع فى فلسطين؛ فإنّ تجربة الدولة الوطنية بشروطها المذكورة من قبل تتجدد وتنمو. لقد أُنقذت الدولة الوطنية بالقيادة القوية والشعب المتماسك، وها هى دول القوة والاستقرار تتجه للدول المتصدعة والتى تعانى التدخلات، من أجل الإنقاذ والاحتضان.
الإقليم يتغير، وتظهر فيه كياناتٌ للغلبة والاستيلاء، تستسهل التدخل وبناء المصالح فى دول الجوار العربية المتصدعة. لكنّ الدولة الوطنية العربية الصاعدة تحفظ أرضها وكيانها واستقرارها من جهة، وتتطلع للإسهام فى استقرار شقيقاتها فى سوريا ولبنان وليبيا والسودان واليمن. ولذلك يتحدث تيارٌ عريضٌ من المفكرين السياسيين العرب عن تجديد تجربة الدولة الوطنية، وعن تطوير الفكرة والممارسات. يشجع على ذلك ليس النجاح فى مكافحة اضطراب العام 2011 فقط؛ بل الاستقرار وتقدم القطاع القانونى والحريات المدنية، والانتشار فى الإقليم، والاتفاقيات الاستراتيجية مع الجهات الدولية، وقبل ذلك وبعده التصميم على تنمية الموارد وزيادتها.
إنّ مبادرات الدولة الوطنية العربية الجديدة، تبرز بعد انتكاسات السبعينيات والثمانينيات للأيديولوجيا القومية، وبعد موجة الأصوليات التى أرعبت العالم خلال عقدين أيضاً. وإلى جانب التأهل والتأهيل من جانب المؤسسات الدينية، يأمل الكثيرون منا أن تتراجع تشاؤميّة المثقفين والإعلاميين للإسهام فى صنع الثقافة الجديدة للدولة الوطنية الحديثة والرشيدة. والشعار هو: تجديد تجربة الدولة الوطنية، واستعادة السكينة فى الدين، والعلاقات الصحية مع العالم.
نقلا عنى الأهرام