يعرف دارسو العلوم السياسية أن هناك فرقًا بين الدولة الضعيفة والدولة القوية. وقد يكون من أشكال الضعف هو عدم القدرة على الدفاع عن الوطن، أو تطبيق القانون، أو تحقيق المساواة بين المواطنين. وقد مرت على المنطقة العربية عدة مراحل أسهمت فى ضعف بعض دول المنطقة أهمها الصراعات والخلافات الداخلية، وتراجع قدراتها الاقتصادية، وأيضا الهزات التى تعرضت لها عقب ما عُرف بالربيع العربي، والذى رافقه موجات شديدة من تفسخ الدول، وانزلاق بعضها فى حروب ونزاعات أهلية. ورغم أن التدخل الأجنبى لم يبرح العالم العربى لأكثر من قرنين من الزمن، فإنه زاد كثافة فى تلك الفترة.
وإذا تأملنا المشهد العربى من العراق إلى ليبيا مرورًا بسوريا ولبنان والسودان واليمن، نجد عددًا من المتشابهات، التى تٌلازم التطور السياسى فى هذه الدول على نحو مقلق، ويجعلنا نضع مسألة الحفاظ على كيان ومؤسسات الدولة فى مقدمة الأولويات التى تتصل بمستقبل هذه المنطقة المضطربة من العالم، ويتعين أن تكون على مائدة القمة العربية المقبلة فى الجزائر.
من ناحية أولى: تشهد هذه الدول عدم توافق بين القوى السياسية والحزبية القائمة، على نحو يعرقل الاستقرار والتنمية، ويفرض عليها ضغوطًا اقتصادية شديدة، ويبدد ثرواتها فى غير مصلحة شعوبها. يمر العراق بحالة من عدم التوافق بين القوى والتيارات السياسية عقب نتائج الانتخابات البرلمانية فى خريف العام الماضي، والتى شهدت صعود تيار مقتدى الصدر على حساب تيارات شيعية أخرى، مما أدى إلى خلافات حول تشكيل الحكومة، ونزول أنصار الصدر إلى الشارع، وحدوث صدامات أدت إلى قتلى وجرحي، ولا يزال الوضع غير مستقر رغم إعلان مقتدى الصدر انسحابه من المشهد السياسي. وفى لبنان لا تزال الاستحقاقات الأساسية مؤجلة، رغم الأزمة الاقتصادية الطاحنة. فقد شهدت الانتخابات البرلمانية منذ شهور بعض التحولات الجديدة، مثل بروز قوة المستقلين، وتراجع نسبى لحزب الله وحلفائه، بما يماثل نفس الاحتجاج السياسى فى العراق ضد القوى والأحزاب الشيعية المحسوبة على إيران، إلا أنه حتى الآن لم يتم الاتفاق على حكومة جديدة، وتأجل استحقاق انتخاب رئيس جديد للبلاد. أما عن ليبيا والسودان، فإن كليهما تنتظران انتخابات برلمانية ورئاسية، ولكن تحول الخلافات الشديدة بين التشكيلات السياسية القائمة دون الاتفاق عليها. فى ليبيا هناك حكومتان متصارعتان، وسط عدم اتفاق على مواد الدستور خاصة التى تحكم انتخاب رئيس الدولة، بينما فى السودان يمتد الخلاف بين الاطراف المتصارعة لما يقرب من عام، وسط عدم القدرة على الاتفاق على تشكيل حكومة، والمضى فى طريق المرحلة الانتقالية انتهاء بالانتخابات العامة.
ومن ناحية ثانية فإن غياب التوافق السياسى فى العديد من الدول العربية أدى إلى حروب ونزاعات أودت بحياة كثيرين، وأنهكت الدولة، وجعلت السلاح فى يد العديد من الفصائل والميليشيات. ورغم كل النداءات، بل الاتفاقات بين الفرقاء السياسيين على قصر السلاح بيد الدولة، لا تزال القوى العسكرية موزعة بين تيارات وفصائل خصمًا من قوة الجيش الوطني. هذه إحدى معضلات بناء الدولة فى عدد من الأقطار العربية مثل العراق وسوريا ولبنان وليبيا والسودان واليمن، ويبدو أنها سوف تستمر لفترة قادمة نتيجة غياب التوافق السياسي، ووجود مراكز قوى سياسية وعسكرية، فضلا عن التدخلات الخارجية التى تساند طرفًا على آخر، ويكفى أن نشير هنا إلى ميليشيات الحشد الشعبى فى العراق، التى يبلغ قوامها عشرات الآلاف، ولها اتصال مباشر بالحرس الثورى فى إيران، وينطبق نفس الأمر على حزب الله فى لبنان، والحوثيين فى اليمن.
ومن ناحية ثالثة يرافق ضعف الدولة الوطنية، انتشار الإرهاب والتطرف من جانب، وزيادة وتيرة التدخلات الخارجية من جانب آخر. ولم تسلم دولة عربية فى كل الحالات التى أشرنا إليها من التدخل الخارجى المعوق لبناء الدولة، ويأخذ التدخل الخارجى فى بعض الأحيان اشكالا عديدة منها دعم ميليشيات مسلحة. وهناك مخاوف حقيقية من تجدد موجات من الإرهاب، واستعادة تنظيم الدولة الإسلامية عافيته فى المشرق العربي، وأيضا انتعاش تنظيم القاعدة، رغم مقتل زعيمه أيمن الظواهري، نتيجة حالة اللامركزية التى يتسم بها، وجعلته أكثر حضورًا فى الساحل وجنوب الصحراء فى إفريقيا.
مما سبق نرى أن الدولة العربية تواجه تحديات متشابهة، والحلول أيضا متشابهة، وتتمثل فى تحقيق التوافق بين أبنائها، دون أطراف خارجية أو تدخلات اقليمية.
نقلا عن الأهرام