معادلة جديدة:
الدلالات السياسية لانتخابات مجالس المحافظات في العراق

معادلة جديدة:

الدلالات السياسية لانتخابات مجالس المحافظات في العراق



للمرة الأولى منذ 10 أعوام، اقترع العراقيون لاختيار مجالس المحافظات، وسط مقاطعة رجل الدين مقتدى الصدر، زعيم أحد أبرز التيارات السياسية في العراق، هذا في وقت رجحت فيه كفة الأحزاب والتيارات الشيعية المتحالفة مع إيران. وقد أظهرت الانتخابات المحلية الرابعة في العراق، أن رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، ورئيس البرلمان المُقال محمد الحلبوسي، أكبر الفائزين. وهي، في الوقت نفسه، تُشير إلى أن الانتخابات في كركوك، المتنازع عليها، تُمثل “نجاحاً” لرئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني. ومن هنا تأتي أهم دلالات الانتخابات العراقية، التي أُجريت في 18 ديسمبر، خاصة فيما يتعلق بالتحالفات الكبرى، سواء على مستوى التكتل الشيعي، أو التحالفات السنية؛ فضلاً عن تداعياتها على ما شهدته من “تفكك التحالفات” التي كانت قائمة قبل إجرائها.

وتجدر الإشارة إلى أن الانتخابات المحلية في العراق، التي تُعرف بانتخابات مجالس المحافظات، تُعد الخطوة الأولى في رسم الخريطة السياسية في البلاد؛ كونها تُعبر عن ائتلافات وتحالفات سياسية، تسعى من خلال الانتخابات إلى تشكيل الحكومات المحلية للمحافظات، ومن ثم قياس مدى قوتها لإمكانية السيطرة على مفاصل الدولة والمجتمع، خاصة أن المجالس المحلية معنية بالدرجة الأولى بتقديم الخدمات الأساسية لسكان المحافظات، بما يسمح لهذه المجالس بتطويع مواردها في اجتذاب مناصرين لها، استعداداً للانتخابات البرلمانية القادمة، في عام 2025.

وفي بيان لها، أشارت مفوضية الانتخابات إلى أن نسبة المشاركة بلغت 41%؛ إلا أن هذه النسبة يبدو أنها قد تم احتسابها قياساً إلى عدد العراقيين، الذي قاموا بتحديث بطاقاتهم الانتخابية، ويبلغ 16 مليون ناخب، في حين أن عدد من يحق لهم الانتخاب يصل إلى نحو 23 مليوناً من الناخبين.

مؤشرات رئيسية

رغم ذلك، تبدو أهم المؤشرات الناتجة عن هذه الانتخابات كما يلي:

1- مقاطعة تيار “الفراتين” بزعامة شياع السوداني وإجراء انتخابات في “كركوك”: فخلافاً لغالبية رؤساء الوزارة في العراق، فقد اختار تيار “الفراتين” الذي يتزعمه محمد شياع السوداني، رئيس الوزراء العراقي، عدم خوض هذه الانتخابات؛ بينما كان حلفاء التيار، وحلفاء السوداني، يخوضون سباقاً محموماً للفوز بمقاعد في محافظات الجنوب والوسط.

ورغم أن قرار تيار الفراتين بعدم خوض الانتخابات المحلية قد أثار تفسيرات متباينة؛ إلا أن المُفارقة التي بدت لافتة هي إجراء الانتخابات في محافظة كركوك للمرة الأولى منذ عام 2005؛ حيث إن الحكومات المتعاقبة لم تتمكن من تنفيذ هذا الاستحقاق الانتخابي طوال هذه السنوات، لأسباب سياسية وأمنية. والمُلاحظ أن السوداني، الذي لم يُشارك في الانتخابات، استطاع تحقيق “فوز سياسي مُهم”، بعدما تمكن من تفكيك واحدة من عُقد المدينة المضطربة بين ثلاثة مكونات قومية: العرب، والكرد، والتركمان.

2- إشكالية “الإطار التنسيقي” للقوى الشيعية: فقد كان من المفترض أن تكون مقاطعة التيار الصدري فرصة مُفيدة لقوى الإطار التنسيقي، الذي كان يطمح إلى حصد أصوات الناخبين الشيعة في بغداد؛ إلا أن النتائج لم تعكس شيئاً من ذلك، سوى أن ائتلاف “دولة القانون” الذي يقوده نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي الأسبق، استطاع المنافسة بشدة على المركز الأول.

أضف إلى ذلك، أن خريطة التحالفات الشيعية قد شهدت مؤخراً وقبل انطلاق الانتخابات، عدداً من التغيرات، أبرزها ما يتعلق بقوى الإطار التنسيقي، وهي أحد مكونات ائتلاف “إدارة الدولة”، الذي شكل الحكومة العراقية الحالية؛ حيث شاركت هذه القوى ليس ككتلة انتخابية موحدة، ولكن عبر أربعة تحالفات، أو قوائم انتخابية. وهو ما يعني أن القوى المنضوية داخل الإطار تفككت إلى عدة تحالفات، كلٌ حسب خطه السياسي، هذا بالإضافة إلى الأحزاب الشيعية الدينية التي شكلت تحالفاً مُنفرداً.

واللافت أن حرب الجغرافيا “المذهبية السياسية”، بقدر ما ساهمت في جعل المالكي يحتل المرتبة الأولى في الجغرافيا الشيعية، بما يعني خسارة كبيرة للتيار الصدري، الذي قاطع الانتخابات من الأصل؛ فإن المعادلة نفسها قد سمحت لرئيس البرلمان المُقال محمد الحلبوسي، باكتساح أصوات الناخبين في محافظة الأنبار، ومدن أُخرى غرب العراق، بدرجات متفاوتة، في حين اقترب من المركز الأول في بغداد بصورة جعلته وجهاً لوجهٍ مع المالكي.

3- فاعليّة الحلبوسي وانقسام التحالف السُني: حيث تمكن الحلبوسي من التنافس على المراتب الأولى في بغداد، بما يعني كسر القاعدة الراسخة منذ عام 2003، بأن يكون منصب المحافظ حكراً على القوى الشيعية. ومن ثم يبدو أن تقدم القوى السُنية قد أضاف صعوبة إلى هذا التقليد الذي يمتد إلى عشرين عاماً مضت؛ وهو ما يؤشر إلى المفاوضات الشاقة التي ستكون طريقاً إلى صيغة التحالف السياسي الذي سيحكم العاصمة العراقية.

والمُلاحظ أن إقالة الحلبوسي قبل انعقاد الانتخابات المحلية في العراق، بفترة وجيزة، ساهم في تأسيس “معادلة جديدة” تتجاوز الأطر السياسية التقليدية في البلاد؛ هذا رغم أن هذه الإقالة نفسها قد ساهمت بشكل واضح في إرباك ملف الانتخابات المحلية، خاصةً أن حزب “تقدم”، أي حزب الحلبوسي، يُعد من أبرز المنافسين على الساحة السنية، وحتى داخل المناطق المشتركة انتخابياً.

إلا أنّ حالة من التفكك بالنسبة إلى تحالف السيادة السُني قد حدثت؛ حيث إن حزب “تقدم” الذي يتزعمه محمد الحلبوسي، وتحالف “عزم” الذي يقوده خميس خنجر، قد شاركا في الانتخابات بقوائم مُنفصلة، وذلك في محاولة لاستفادة كل طرف من نتائج الانتخابات في المحافظات التي يتمتع فيها كل منهما بشعبية كبيرة.

4- تداعيات مقاطعة الصدريين للانتخابات: إذ تأتي هذه المُقاطعة في الوقت الذي يسعى فيه أركان تحالف “الإطار التنسيقي للقوى الشيعية”، للسيطرة على مفاصل الدولة العراقية عبر البرلمان، ومن خلال انتخابات مجالس المحافظات؛ خاصة أن الإطار يُمثل الكتلة البرلمانية الأكبر، التي تضم معظم المليشيات الموالية لإيران.

وكما يبدو، فقد استطاع خصوم الصدر من الشيعة، الذي قاموا بعرقلة محاولته لتشكيل حكومة بعد فوزه في الانتخابات البرلمانية، في عام 2021، الحصول على نسبة كبيرة من مجالس المحافظات، ولا سيما في المحافظات الجنوبية التي تقطنها أغلبية شيعية. ومن شأن ذلك أن يُساهم في تعزيز قوة الائتلاف الشيعي الحاكم، المعروف باسم الإطار التنسيقي المُقرب من إيران، بل ويُساعد على المزيد من التحكم في ثروات البلاد النفطية، التي يمكن إنفاقها على المشروعات والخدمات المحلية، خاصة أن التحالف بالفعل يُشكل أكبر كتلة في البرلمان بعد انسحاب أعضاء التيار الصدري منه.

5- تفكك التحالفات السياسية للقوى المدنية: فرغم أن الأحزاب العراقية ذات التوجه المُعارض، التي كانت قد تشكلت بعد موجة الاحتجاجات في أكتوبر 2019، في تشكيل تحالف “قيم”، الذي يُمثل نجاحاً في تخطي عتبة قانون الانتخابات المُعدَّل “سانت ليغو 1.7″؛ إلا أن هذا التحالف دخل الانتخابات عبر 400 مرشح، في 12 محافظة عراقية، وفي الوقت نفسه شهد صراعات داخلية نتيجة اختلاف تكويناته من المنظور السياسي والفكري، حيث ينضوي في إطاره أحزاب يسارية وأخرى ليبرالية، فضلاً عن قوى أخرى لا تمتلك وجوداً فاعلاً في الشارع العراقي.

من جانب آخر، يأتي تشكيل تحالف “الأساس” من ائتلاف عدة أحزاب، ليُضيف بُعداً آخر إلى عملية تفكك التحالفات السياسية للقوى المدنية، وذلك من حيث إنه يضم 19 نائباً كانوا في تشكيلات سياسية على صلة بما يُطلق عليه “الاحتجاج التشريني”، نسبة إلى احتجاجات أكتوبر 2019. وقد استغل التحالف الانتخابات في تقديم نفسه على أنه قوة مدنية، بل واستغل مفردات الخطاب الاحتجاجي في منافسة تحالف “قيم” لاستهداف الجمهور المدني؛ إلا أنه باستثناء محافظة البصرة لم يستطع أن يكون مُنافساً لتحالف “قيم”. وقد تبدت الاختلافات بين أعضائه، خلال الانتخابات، خاصة في محافظات واسط وكربلاء والنجف.

نافذة الفرصة

في هذا السياق، يُمكن القول إن المشهد السياسي العراقي على موعد مع “تغييرات سياسية” جديدة، خاصةً أن هذه الانتخابات ساهمت في تفكك التحالفات القائمة، بين الكتل السياسية العراقية، سواء الشيعية أو السنية، فضلاً عن القوى المدنية. وهو ما يؤكد ليس فقط على أن خريطة التفاعلات السياسية التي كانت قائمة على مدار الأشهر الماضية ستتغير ملامحها، ولكن أيضاً يؤكد على أن هذه الانتخابات قد قدمت الفرصة كاملة إلى الأحزاب والتيارات الحليفة لإيران، التي تمتلك أغلبية برلمانية، وتُمثل الأحزاب الشيعية التقليدية وبعض فصائل الحشد الشعبي.