يكتسب التصعيد العسكري الإيراني في العراق، الذي وصل إلى ذروته في 28 سبتمبر الماضي، أهميته من توقيته الذي يطرح دلالات عديدة ترتبط بما يجري على الساحة الداخلية الإيرانية من احتجاجات وصلت إلى يومها الثاني عشر، يتمثل أبرزها في محاولة النظام استباق أي تصعيد مسلح في الداخل، وتهديد الوجود الأمريكي في العراق رداً على دعم واشنطن للاحتجاجات، وتأكيد أن الاتجاه المناوئ للنفوذ الإيراني في العراق هو نفسه الداعم للاحتجاجات الداخلية في إيران.
وجه الحرس الثوري الإيراني ضربات عسكرية جديدة داخل مدينة أربيل بشمال العراق، في 28 سبتمبر الجاري، استخدم خلالها المدفعية والطائرات المسيرة، بالتوازي مع تعرض المنطقة الخضراء في بغداد، التي تشهد تظاهرات نظمها أنصار التيار الصدري، لهجمات صاروخية في التوقيت نفسه. وقد أشارت وكالات الأنباء الرسمية إلى أن “قاعدة حمزة سيد الشهداء، التابعة للقوات البرية لحرس الثورة الإسلامية الإيرانية ضربت مقرات للإرهابيين الانفصاليين في شمال العراق بصواريخ دقيقة وطائرات مسيرة مدمرة”.
ورغم أن إيران أعلنت مسؤوليتها عن الهجوم الأول، فإنها تجنبت التعليق على الهجوم الثاني، وإن كانت التوقعات تشير إلى أن المليشيات المسلحة التابعة لها هي المسؤولة عنه، لا سيما أنها استهدفت أنصار التيار الصدري الذي تتصاعد حدة التوتر في العلاقات بينه وبين القوى الموالية لإيران، ممثلة في الإطار التنسيقي الذي اتجهت القوى الرئيسية فيه إلى تكوين إطار سياسي جديد تحت اسم “ائتلاف إدارة الدولة”.
دوافع عديدة
يمكن تفسير إقدام إيران على هذا التصعيد العسكري الجديد داخل العراق، في ضوء دوافع عديدة يتمثل أبرزها في:
1- استباق “الخيار الأسوأ” في الاحتجاجات الداخلية: ربما يحاول النظام الإيراني عبر تلك الضربات تحذير الجماعات المسلحة الكردية الإيرانية الموجودة في شمال العراق من عواقب الانخراط في الاحتجاجات الداخلية عبر تقديم دعم عسكري للمحتجين، ولا سيما في المناطق الكردية التي كانت نقطة الانطلاق الرئيسية للاحتجاجات الحالية بعد وفاة الفتاة الكردية مهسا أميني، في 16 سبتمبر الجاري، بعد تعرضها للاعتداء من جانب عناصر شرطة الإرشاد. وربما تتجاوز المسألة نطاق التحذير إلى محاولة تقليص قدرة تلك الجماعات بالفعل على المشاركة في الاحتجاجات، وتوسيع نطاقها لتتحول إلى احتجاجات مسلحة ضد النظام، خاصة أن الهدف الأساسي لهذه الجماعات يتمثل في إسقاط نظام الجمهورية الإسلامية.
2- تجنب استنساخ “المسار السوري”: يبدو أنالنظام يخشى من احتمال استنساخ المسار السوري في إيران، بعد أن تحولت المظاهرات التي انطلقت في سوريا، في مارس 2011، إلى احتجاجات مسلحة سعت إلى إسقاط النظام الذي بدأ بالفعل يتعرض لضربات قوية كادت أن تؤدي إلى تحقيق ذلك، قبل أن تتدخل إيران عبر الحرس الثوري والمليشيات الشيعية التي قامت بتأسيسها وتدريبها للمشاركة في المواجهات المسلحة إلى جانب النظام، بدعم سياسي وعسكري من جانب روسيا، على نحو أدى في النهاية إلى تغيير توازنات القوى لصالح النظام.
وهنا، فإن النظام في إيران قد يرى أن مشاركته في “إنقاذ” النظام السوري قد يكون دفع القوى المناوئة له إلى محاولة الرد في داخل إيران نفسها، عبر تشجيع ودعم الاحتجاجات الداخلية، وربما تقديم ما هو أكثر من التأييد المعنوي أو اللوجيستي الخاصة بتوسيع نطاق المساعدات التقنية الخاصة بشبكة الإنترنت.
وربما ترى القيادة العليا في إيران أن هناك متغيرات يمكن أن تعزز من احتمال استنساخ هذا المسار، منها تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية نتيجة إخفاق الحكومات المتعاقبة في احتواء تأثيرات العقوبات الأمريكية، واتساع نطاق الاستياء المجتمعي، وتأسيس جماعات عرقية تمتلك قدرات عسكرية، وتستخدم الحدود مع دول الجوار لتنفيذ هجمات في الداخل، سواء عبر العراق، أو عن طريق باكستان وأفغانستان.
3- الرد على الدعم الأمريكي للمحتجين: لا يمكن فصل الهجمات الصاروخية التي استهدفت المنطقة الخضراء عن الاستياء الإيراني من الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية للمحتجين، خاصة أن المنطقة الخضراء تحظى بأهمية خاصة لدى واشنطن لاعتبارات سياسية وأمنية عديدة. وقد انقسم هذا الدعم الأمريكي إلى قسمين: الأول، فرض عقوبات على شرطة الإرشاد أو الأخلاق الإيرانية التي اتُّهمت بالاعتداء على مهسا أميني لدرجة أدت إلى وفاتها. وفي هذا السياق، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية، في 22 سبتمبر الجاري، فرض عقوبات على قائد شرطة الأخلاق محمد رستمي غاتشي، ومدير شرطة الأخلاق في العاصمة طهران أحمد ميرزائي، إلى جانب مسؤولين بوزارة الاستخبارات والأمن، وقوات الباسيج، والقوات البرية للجيش. واتهمت واشنطن هذه الجهات بـ”سوء المعاملة والعنف ضد النساء الإيرانيات، وانتهاك حقوق المتظاهرين الإيرانيين السلميين”.
والثاني، تقديم مساعدات تقنية إلى المحتجين لتقليص القيود المفروضة على شبكة الإنترنت. وقد أشار ديفيد سانجر في تقرير بصحيفة “نيويورك تايمز”، في 26 سبتمبر الجاري، بعنوان “دعم بايدن للمتظاهرين الإيرانيين جاء بعد الدروس المريرة لعام 2009″، إلى أن وكالة الاستخبارات الأمريكية تبحث إيصال معدات الاتصال الخاصة بالأقمار الصناعية إلى المحتجين الإيرانيين، سواء عبر اختراق الحدود الإيرانية، أو من خلال إسقاطها بواسطة طائرات من دون طيار.
وربما لا يستبعد النظام الإيراني، في هذه الحالة، أن تستعين الولايات المتحدة الأمريكية بخبرات جهاز الموساد الإسرائيلي الذي تمكن مرات عديدة من اختراق الأراضي الإيرانية، وتجاوز الإجراءات التي تتخذها أجهزة الأمن والاستخبارات الإيرانية، والوصول إلى أكثر المؤسسات الأمنية والنووية والعسكرية حساسية داخل إيران، وذلك من أجل تعزيز احتمالات تفاقم الاحتجاجات الحالية وتطورها إلى مرحلة غير مسبوقة قد تهدد بقاء النظام نفسه في الحكم، أو بمعنى أدق منع النظام من احتوائها على غرار ما نجح في تحقيقه خلال الاحتجاجات السابقة التي اندلعت بداية من احتجاجات الحركة الخضراء في عام 2009، وانتهاء بالاحتجاجات الخاصة برفع أسعار الوقود في عام 2019.
4- رفع كلفة تعثر المفاوضات النووية: يتزامن التصعيد العسكري الإيراني الجديد مع تعثر المفاوضات التي تجري حول الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة “4+1” وتشارك فيها الولايات المتحدة الأمريكية بشكل غير مباشر. فبعد أن تزايدت احتمالات الوصول إلى صفقة بين واشنطن وطهران تعزز من احتمالات استمرار العمل بالاتفاق النووي ويرفع بمقتضاها القسم الأكبر من العقوبات الأمريكية، عادت الخلافات القديمة إلى الظهور مرة أخرى، نتيجة استمرار شكوك إيران في مدى إمكانية الرهان على إبرام صفقة بدون ضمانات من جانب الولايات المتحدة الأمريكية.
وربما يؤثر التوتر المتصاعد بسبب استياء طهران من الدعم الأمريكي للاحتجاجات على المقاربة الإيرانية المتشددة في الأساس إزاء المفاوضات، خاصة أنها زادت من شكوك طهران من أن واشنطن لا تبدو مستعدة للوصول إلى تفاهمات تقلص التوتر والخلافات بين الطرفين، وأنها سرعان ما ستعود من جديد لممارسة ضغوط عليها عبر ملفات وآليات أخرى. لكن ذلك لا ينفي أن احتمال الوصول إلى صفقة ما زال قائماً ولم يُستبعد نهائياً، حتى بعد التوتر الحالي، خاصة أن الطرفين ما زالت لديهما رغبة في الوصول إلى مثل تلك الصفقة.
استهداف مستمر
في ضوء ذلك، يمكن ترجيح استمرار التصعيد العسكري الإيراني، سواء داخل العراق أو داخل سوريا خلال المرحلة القادمة. وهنا، فإن الهدف لم يعد يقتصر فقط على رفع أثمان استمرار الخلافات مع الولايات المتحدة الأمريكية حول العقوبات والبرنامج النووي وبرنامج الصواريخ الباليستية، أو حتى التدخلات الإيرانية المستمرة في الشؤون الداخلية لبعض دول المنطقة؛ وإنما أُضيف إليه محفز آخر يتعلق بمحاولة إدارة الرئيس جو بايدن التماهي مع مطالب المحتجين الإيرانيين ونقل الدعم المعنوي الحالي إلى خطوات إجرائية على الأرض لتصعيد ضغوطهم على النظام الإيراني.