الحوادث والكوارث مقياس قوة الدولة – الحائط العربي
الحوادث والكوارث مقياس قوة الدولة

الحوادث والكوارث مقياس قوة الدولة



فى يوم 7 يوليو 2000 كنت عائدا من مدينة ليزبرج فى شمال فيرجينيا إلى بيتى فى قلب إحدى غاباتها، فى طريق هابط من قمة هضبة مرتفعة، فاختلت عجلة القيادة من يدي؛ لأن الطريق الترابى كانت تكسوه طبقة من الحصى الصغير الذى تعود الأمريكان أن ينثروه على الطرقات غير الممهدة بعد هطول الأمطار. اندفعت السيارة بكل قوتها واصطدمت بشجرة ضخمة قسمت مقدمة السيارة إلى قسمين، كنت وحدى فى الأمام، وفى الخلف ابنى، ومعه ثلاث بنات لصديقى، وجميعهم دون الثامنة من العمر. تكسرت أضلعى لدخول مقود السيارة فيها، وكذلك رجلى اليسرى، نظرت خلفى فوجدت ابنى، وواحدة من البنات أصيبا، والدماء تكسو وجهيهما، والبنت الثانية فى حالة غيبوبة، خرجت من السيارة بصعوبة وحملتها. كان بالقرب من موقع الحادث اثنان من عمال الزراعة، هرعا إلينا بسرعة، مزق أحدهما ملابسه لتضميد جراح الاطفال، وظننت أن الامر وقف عند هذا الحد، ولكنهما اتصلا بالإسعاف والشرطة وأبلغا عن الحادث، لم تمض سوى خمس دقائق وإذ بطائرة إسعاف أقلت الطفلة الثانية فى حالة الغيبوبة، وسيارتين لى، ولباقى الاطفال، الطائرة أنقذت حياة الطفلة التى اصيبت بنزيف فى المخ، ولو تأخر وصولها دقائق كانت حياتها فى خطر، وسيارات الاسعاف التى تفتح لها الطرقات بمجرد سماع صوتها، حيث تتحرك جميع السيارات إلى أقصى اليمين وتقف فى مكانها حتى تتجاوزها سيارة الاسعاف.

هذه الإجراءات وتلك الثقافة المجتمعية التى تجعل العامل البسيط يبادر ويبلغ الشرطة والإسعاف – وجميعها يتم التواصل معها برقم واحد ـ ويصف لها الحالة بدقة، وسرعة الاستجابة مع افتراض أسوأ الاحتمالات هى التى جعلت أمريكا دولة قوية، وفى المقابل، وعلى الطرف الآخر من الدنيا تحدث الكوارث، وتتحرك الدولة بعد ساعات طوال أو أيام، بالأمس القريب كارثتان من العيار الثقيل، وغير المسبوق فى الدولتين، زلزال المغرب، وتسونامى درنة فى ليبيا، نموذجان للتأمل العميق الحزين على أرواح آلاف البشر الذين جاءهم القدر ليلا وهم نائمون. شعور مهول مخيف إلى أبعد الحدود ان تتوقع حدوث مثل هذه الكوارث والناس فى سكينة نائمون. وعلى الرغم من هول المأساة فلابد من التعلم من الدروس حتى لا تتكرر فى المستقبل فى أى مكان، ومن هذه الدروس:

أولاً: إن الدولة هى المؤسسة المجتمعية الاولى والوحيدة التى تتعلق برقابها أرواح البشر، وأن غياب الدولة، أو ضعفها يعنى تهديدا حقيقيا لكل المجتمع وكل من فيه، وأن هؤلاء الذين يريدون إضعاف الدولة، أو تغييبها لصالح الجماعة أو الحزب أو الطائفة أو القبيلة يعيشون خارج التاريخ، ولا يعرفون كيف تكون الحال عندما تغيب الدولة، وتتآكل مؤسساتها، ولعل النموذج الليبى خير مثال؛ فحين غابت الدولة تم إهمال السدود المائية مثلا، وترك الناس يبنون بيوتهم فى مجرى السيول، وأهملت المؤسسات التى تهب لنجدة البشر ضحايا الكوارث.

ثانيا: إن الجيوش هى عماد الدول، ليس فقط فى مواجهة الأعداء من الدول الأخرى، بل فى مواجهة الكوارث الطبيعية والأزمات، فلولا تحرك الجيش المصرى مع الجيش الليبى لنجدة إخوانه فى ليبيا الشقيقة لم يكن للحضور الرمزى للدول التى قدمت المعونة أن يفعل الكثير فى كارثة بحجم انهيار سدود وتدفق مياه فى مستوى تسونامي.

ثالثاً: إن مفهوم السيادة ليس أهم من حياة الناس، وإن الخلافات السياسية لا يجوز أن تقف عائقا فى التعاون على مواجهة الكوارث، وقد أثبت الشعب الليبى أنه قادر على تجاوز الخلافات والصراعات السياسية والوقوف صفا واحدا لنجدة الناجين وتكريم الراحلين، بينما هناك حالات اخرى تم فيها رفض مساعدات الاشقاء والجيران تشبثاً بمواقف سياسية، وتحت دعوى المحافظة على السيادة.

رابعا: فى عصر التحولات الطبيعية الكبيرة والعميقة الناتجة عن تغير المناخ، والعبث بطبقات الأرض بحثا عن الموارد الطبيعية، أو نتيجة للتفجيرات النووية فإن العالم مقدم على مزيد من الكوارث، لذلك لابد من الاستعداد للاستجابة لهذه التحديات، وتدريب جيوش من البشر للتعامل مع هذه الحالات، وقبل ذلك التعاون بين الدول العربية، وليس الانغلاق البغيض فى الشوفينية القطرية المقيتة التى ظهرت فى بعض الفضائيات العربية التى تجاهلت حضور الجيش المصرى الضخم فى درنة، وأبرزت دور الكلاب الإسبانية والتونسية، حتى لا تعطى مصر وجيشها مكانة مستحقة، والخطير فى ذلك أن الجميع معرض لأخطار غير متوقعة، فلابد من التحرر من هذه النظرة الضيقة فعند حدوث الكوارث تكون أرواح البشر وحياتهم أهم من التفاخر والأنانية البغيضة.

خامسا: إذا لم تستطع الجامعة العربية النجاح فى إنشاء قوات دفاع مشترك حقيقية تواجه التحديات العسكرية فقد يكون من الممكن النجاح فى تكوين قوات عربية مشتركة لمواجهة الكوارث الطبيعية، وأن تخصص لها ميزانيات يشارك فيها جميع الاعضاء. قوة الدولة ليست فقط بمقدار ما تملك من قدرات عسكرية، ولا بمقدار الثروات الطبيعية، ولا بالأرصدة الدولارية، ولا بعدد السكان، وإنما القوة الحقيقية هى بمقدار الاستجابة للتحديات التى تواجه شعبها سواء فى حادثة مرورية أو كارثة طبيعية.

نقلا عن الأهرام