سوف يسجل التاريخ أن السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ شهد افتتاحية حرب غزة الخامسة، وبقى للأيام أن تثبت ما إذا كانت هذه الحرب مختلفة عن سابقاتها وأن أمرًا جديدًا حدث، وستكون لهذه الجدة نتائج استراتيجية إقليمية ودولية.
تقاليد الحروب الأربع السابقة أن يطلق الفلسطينيون صواريخ على إسرائيل، ويعقبها شن إسرائيل هجمات كاسحة لتدمير ما تسميه البنية الأساسية المادية والبشرية للخصوم، وتحرق فى طريقها الأخضر واليابس فى مشاهد مفزعة تعيد تأكيد «النكبة» الفلسطينية مرة أخرى.
وبينما تصدر البيانات الباهرة من الجانب الفلسطينى والحديث عن الأمجاد التى جرَت، فإن مصاحبتها بالرجاء العربى تدعو المجتمع الدولى إلى فض الاشتباك ووقف القتال. هنا يكون دور مصر فى كل الجولات السابقة هو السعى الحثيث من أجل إنقاذ الشعب الفلسطينى؛ وفى آخر الحروب، ورغم الظروف الاقتصادية الصعبة، خصصت مصر نصف مليار دولار لإعادة إعمار غزة.
الحرب الخامسة اختلفت عن الحروب السابقة، فلا شك أن حماس نجحت نجاحًا كبيرًا فى إحراز مفاجأة استراتيجية من الطراز الذى جرى تسجيله عالميًّا منذ الهجوم اليابانى على بيرل هاربر، وعملية بارباروسا التى شنها هتلر على الاتحاد السوفيتى خلال الحرب العالمية الثانية.
وبالتأكيد فيها ملامح المفاجأة التى جرت فى حرب أكتوبر ١٩٧٣. هجوم الصواريخ كان أشد كثافة ودقة؛ وكان مصاحبًا بعمليات برية داخل النطاق الإسرائيلى؛ واستخدام تقنيات قتالية تسليحية جديدة. الفارق الأساسى يأتى هنا فى توقيته، حيث يرمى الهجوم إلى إحباط تغيرات كبرى تجرى فى المنطقة مركزها احتمالات التوصل إلى اتفاق سعودى إسرائيلى أمريكى على تطبيع العلاقات فى إطار اتفاق إقليمى.
المشهد يبدو مشابهًا لما كان عليه الحال عندما انعقدت قمة عربية اقتصادية خلال الثمانينيات وبدَت وكأنها تضع القضية الفلسطينية جانبًا، فكانت الانتفاضة للتذكير.
الأصابع الإيرانية أشد وضوحًا فى الدعوة التى قام بها القائد العسكرى لحماس، محمد ضيف «أبوخالد»، إلى مشاركات عسكرية من لبنان وسوريا والعراق وإيران واليمن، وجميعها ذات علاقات خاصة بالمعسكر الإيرانى. وفى الوقت نفسه يوزع أدوارًا بالمشاركة فى المواجهة والجهاد؛ ولمرة إضافية فى التاريخ، تقرر قوة فلسطينية إدارة مصائر عدد كبير من الدول العربية دون استشارة أو تنسيق.
والحقيقة أنه لا يوجد خلاف على حق الفلسطينيين تحت الاحتلال فى المقاومة، لكن المقاومة واستخدام السلاح لابد أن تكون له أهداف سياسية واضحة وليس مجرد انتقام تاريخى وتفريغ كميات هائلة من الغضب. والحقيقة أيضًا أن هناك حالة عالمية من ازدواجية المعايير التى تنتفض غضبًا فى المحافل الدولية بسبب الاحتلال الروسى لأوكرانيا، ولا يرتعش لها رمش من أجل الاحتلال والاستيطان الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية.
وفى بيان الرئيس بايدن المتشدد لا يرد ذكر لكلمة الاحتلال ولا للتمييز العنصرى الذى لا يتعرض له فقط فلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة، وإنما قبلهم وبعدهم فلسطينيون يحملون الجنسية الإسرائيلية فى يافا وحيفا والرملة والجليل والنقب. ويُضاف مؤخرًا، والدلائل واضحة، أن إسرائيل أصبحت أيضًا مسجلًا لها انحراف يمينى واضح تسيطر فيه الأصولية الدينية التوراتية، وتدفع فى اتجاه المزيد من الاستيطان والعدوانية فى القدس والمناطق المقدسة المسيحية والإسلامية.
كل ذلك معلوم وصحيح، ولكن وسط الأحداث الجسيمة، فإن مصر تبقى هى الوطن الواجب المحافظة عليه وسط أحداث جِسام لا ينبغى أن نُستدرج إليها، بالمشاركة المباشرة بالطبع، ولكن بالمحافظة على الجبهة الداخلية من الاستدراج إلى دفع ثمن حروب لم نشارك فى قرارها ولا تحديد أهدافها واستراتيجيتها؛ ولا حتى يوجد إجماع فلسطينى عليها.
سوف نترك جانبًا موقف حماس من مصر، وما قامت به إبان فترة أحداث يناير من مشاركة فى اقتحام السجون، ثم بعد ذلك حفر الأنفاق أسفل الحدود المصرية. ولكن ما لا يمكن وضعه جانبًا أن الحرب الجارية الآن تقدم تهديدًا مباشرًا لمصر من خلال الدفع السكانى الفلسطينى فى اتجاه سيناء، وهو منحى إسرائيلى له سوابق تاريخية، ولا ينبغى أن نتركها للمصادفات أو لفرض أمر واقع.
المهمة المصرية الحالية هى الحفاظ على قوة الدفع التنموية المصرية الجارية، ومواجهة تحدياتها الاقتصادية الصعبة الحالية، التى لن تفيدها حالة من الغليان، ولا دفع دعوة حماس إلى العنف وإرهاب السائحين، ولا قيام حماس بالوصاية على الدول العربية الساعية إلى قيام سلام واستقرار إقليمى وإقرار مستقبلها لكى لا يماثل دولًا عربية استبدت بها القوى العقائدية والدينية.
هذا وقت للوحدة الوطنية والاصطفاف الوطنى وراء قيادة حافظت على مصر وسعت إلى بنائها وسط ظروف دولية من إرهاب وبلاء وحروب، وها هو هَمٌّ آخر يأتى بلا موعد ولا اتفاق.
نقلا عن المصري اليوم