الحرب الأيديولوجية – الحائط العربي
الحرب الأيديولوجية

الحرب الأيديولوجية



عقب انتهاء الحرب الباردة وما توارد حينئذ عن نهاية التاريخ وصدام الحضارات ورد أيضا الحديث عن نهاية الأيديولوجية لأن العالم بات من التعقيد والتركيب بحيث لا يمكن لنظام نقى الأفكار له وجهة نظر فى كل أمور الدنيا أن يستوعب الحالة الحالية للحكم والإدارة فى العالم. خرجت هذه الأفكار فى العموم من الولايات المتحدة الأمريكية التى نظرت إلى ما جرى من تغيير هائل فى النظام الدولى على أنه انتصار كبير لليبرالية والنظام الديمقراطى فى الحكم على ما عداه من نظم جرى وصفها بأنها استبدادية أو ديكتاتورية أو أوتوقراطية أو سلطوية وكفي. مر على ذلك الآن أكثر من ثلاثة عقود دخلت فيها أمريكا فى حروب كثيرة حاولت فيها إعادة هندسة أمم بأكملها مثل العراق وأفغانستان، أو الضغط على أمم أخرى بإشهار أسلحة أيديولوجية فى مقدمتها كانت الديمقراطية وحقوق الإنسان. انتخاب الرئيس دونالد ترامب الجمهورى لأربع سنوات خلق موقفا آخر يقوم على أن الولايات المتحدة لا يهمها كثيرا كيف تحكم الدول الأخري، بل إن الرئيس الأمريكى باتت لديه علاقات ودية للغاية مع القيادة الروسية والأخرى فى كوريا الشمالية؛ وكان الرئيس الصينى هو وزوجته أول الزائرين له فى منتجعه الخاص فى مارا لا جو بولاية فلوريدا. كان العامل الأيديولوجى قد تراجع كثيرا فى العلاقات الدولية، ولكن مع انتخاب الرئيس الديمقراطى بايدن فإنه عاد مرة أخرى إلى إشهار الأيديولوجية الليبرالية فى مواجهة ما سماه السلطوية مع التركيز بصفة خاصة على الصين باعتبارها الخصم المنافس على قيادة العالم. كان العالم قد تغير كثيرا، وبالفعل أصبحت الصين قوة عظمي، وأكثر من ذلك أصبحت لها إستراتيجية للنفاذ على العالم ممثلة فى مشروع الحزام والطريق. ولكن بكين التى لفظت السلاح الأيديولوجى منذ تركت الكتاب الأحمر للرئيس ماوتسى تونج، اختارت دائما أن تنفذ إلى العلاقات الدولية من نافذة الاقتصاد والمصالح المشتركة. ولكنها فى مواجهة مؤتمر الديمقراطية الذى عقدته الولايات المتحدة أخذت اتجاها مخالفا تماما.

ولأول مرة فيما نعلم، وخارج التصريحات المتناثرة للقادة الصينيين فى رفض التدخل فى الشئون الداخلية للدول، فإن الصين باتت مستعدة للخروج بوثيقة تمثل الإطار الأيديولوجى للدولة الصينية وتقدمه للعالم باعتباره معبرا عن النجاح والإنجاز. وفى يوم السبت ٤ ديسمبر الحالى ونقلا عن صحيفة جلوبال تايمز الصينية والتى تصدر عن دار صحيفة الشعب المعروفة أصدر المكتب الإعلامى لمجلس الدولة الصينى كتابا أبيض بعنوان الصين: ديمقراطية فاعلة. وينقسم النص الأساسى للكتاب الأبيض إلى خمسة أقسام: الديمقراطية الشعبية للعملية بأكملها فى ظل قيادة الحزب الشيوعى الصيني، وإطار مؤسسى سليم، وممارسات ملموسة وعملية، وديمقراطية فعالة، ونموذج جديد للديمقراطية. تمثل الوثيقة خطابًا منهجيًا حول الديمقراطية نشرته دولة باتت عظمى خارج النظام السياسى الغربي. الخطاب يصف الصين بأنها أول مجتمع واسع النطاق فى العالم يمارس الديمقراطية الشعبية الكاملة متحديا فى ذلك التعريف الاحتكارى للولايات المتحدة والغرب للديمقراطية، ولكنه لا ينكر الديمقراطية الغربية كلها، وإنما يشير إلى وجود ممارسات البشر المختلفة للديمقراطية. الكتاب الأبيض يقول لا نعتقد أن النظام الديمقراطى على النمط الغربى ليس له أى ميزة. على سبيل المثال، تتمتع سيادة القانون بسلطة عالية فى العديد من الدول الغربية، وقد اعتادت المجتمعات بشدة على حل نزاعات محددة من خلال القنوات القضائية. ويستمر فى القول إن الديمقراطية الشعبية فى الصين الكاملة لا تحمل علاقة عدائية مع الديمقراطية على النمط الغربي. إن الديمقراطية نتاج خلفيات تاريخية وثقافية مختلفة فى بلدان مختلفة. ولكن الكتاب من جهة أخرى يعقد مقارنة قاسية بين مخرجات أو منجزات النظام الديمقراطى على الطريقة الأمريكية، والآخر على الطريقة الصينية. وينتهى الكتاب بالقول إن المجتمع الصينى اليوم مليء بالثقة السياسية، لأننا شهدنا نجاحنا، وتقدمنا، وفاعليتنا فى التعامل مع أزمة صحية عامة شديدة مثل كوفيد-١٩. نحن ندعو إلى الديمقراطية، وملتزمون بممارسة الديمقراطية. بالنسبة للقوى التى تشتم علينا، نريد أن نقول: قارن إنجازاتك بإنجازاتنا، ستجدون أنفسكم عالقين فى ركود، وعندها ستعرفون أن ديمقراطيتكم لم تعد تستحق التباهى بها.

ورغم المحاولة لخلق نوع من المرجعية الديمقراطية المستندة إلى تنوع الظروف، فإن النظرة فى الكتاب عن الولايات المتحدة فيها درجة كبيرة من النقد للتجربة الأمريكية والتى تنعدم فيها الفاعلية بعد أكثر من ٢٠٠ عام من الإفراط فى الاستهلاك. ولا يمكن أن يوفر الدافع لحل حتى أبرز المشكلات فى الولايات المتحدة. لقد أصبح تقريبا إطارا أجوف حينما تجرى جولات من الانتخابات. أصبحت الانتخابات بحد ذاتها السمة الوحيدة للديمقراطية الأمريكية، وأصبح الفوز فى الانتخابات الهدف الأسمى للأحزاب السياسية والساسة. ومع تمزق المجتمع الأمريكي، أصبح العمل على حل المشكلات أمرًا غير اقتصادى على نحو متزايد. ثبت أنها طريقة أذكى للتظاهر بحل المشكلة ثم إلقاء اللوم على المعارضين السياسيين لعدم قدرتهم على حل القضايا والاحتيال على ثقة الناخبين. سيقدر السياسيون الشعب الأمريكى فقط عندما يكونون ناخبين. لكن بعد كل انتخابات، لا يمكنهم الإشراف المستمر على الجانب الفائز. ورغم أن فى ذلك نوعا من إنكار الدور الذى يلعبه الكونجرس، فإن النقد حول شيوع الحكومات الصغيرة فى الولايات المتحدة والغرب يجعلها لا تتحمل مسئولية أخلاقية عن معيشة الناس. وحتى لو أدت جائحة كوفيد-١٩ إلى وفاة أكثر من ٧٠٠٠٠٠ فى الولايات المتحدة، فإن الحكومة الفيدرالية ليست بحاجة لتحمل المسئولية. بدلاً من ذلك، يمكن للرئيس التنصل من المسئولية تجاه الأشخاص العاديين الذين لا يتم تطعيمهم أو يرفضون ارتداء الأقنعة. يبدو أن الحرب الأيديولوجية بدأت!

نقلا عن الأهرام