لزيارة الرئيس الأمريكى جوزيف بايدن للعربية السعودية أهمية كبيرة، لكن فقط ضمن حدود معينة. التريث وتجنب المبالغة مطلوبان عند إصدار الأحكام على هذه الزيارة، فكثير من وعودها مكتوب بحبر سريع التبخر، عليه أن يجتاز اختبارات السياسة الأمريكية المتقلبة، وتغيرات العالم المتسارعة، قبل أن يتحول إلى أحد مكونات الحقيقة الاستراتيجية فى المنطقة.
على مدى عقود طويلة قامت بين الدول العربية النفطية والولايات المتحدة علاقة استراتيجية مستقرة وفقا لمبدأ النفط مقابل الأمن، وبمقتضاه زودت الدول العربية الأسواق بكميات كافية من النفط، مقابل التزام الولايات المتحدة بتوفير الأمن لدول المنطقة. تخلت الولايات المتحدة عن هذه الصيغة المتوازنة بعد هجمات الإرهاب فى الحادى عشر من سبتمبر، وأضافت إلى المعادلة عنصرا جديدا يتعلق بطبيعة نظم الحكم والثقافة السائدة فى المنطقة. ضغطت الولايات المتحدة لتغيير المعادلة الحاكمة لعلاقاتها مع أهل المنطقة، لتصبح التغيير مقابل الأمن، بدلا من النفط مقابل الأمن، فأصبحت أمريكا سببا لعدم الاستقرار فى الشرق الأوسط، بعد أن كانت ضمانة لاستقراره.
الربيع العربى المزعوم هو فى جانب كبير منه نتيجة لهذا التغير فى الدور الأمريكى. دخلت المنطقة فى فوضى عارمة نتيجة لثورات شجعتها الولايات المتحدة. تعذر على الأمريكيين إدارة الفوضى التى أسهموا فى خلقها، فوضعوا اللوم على الشرق الأوسط الذى يرفض التغيير. حدث هذا بينما كانت الشركات الأمريكية تطور تكنولوجيا إنتاج النفط الصخرى، والتى حولت الولايات المتحدة إلى مصدر للنفط والغاز بعد أن كانت مستوردة له، فتراجعت أهمية نفط الشرق الأوسط فى الحسابات الأمريكية.تساءل عباقرة التفكير الاستراتيجى الأمريكيون، خاصة من الديمقراطيين، عن الأسباب التى تبقى الولايات المتحدة فى هذه المنطقة البائسة، فلا نفط المنطقة مهما، ولا هناك أمل فى التحاقها بعالم الديمقراطيات الغربية، فلماذا الاهتمام بمنطقة كهذه؟
أسهم صعود الخضر أنصار البيئة فى تشويه الفهم الأمريكى للشرق الأوسط. حماية الكوكب تستلزم التوقف عن حرق الوقود الأحفورى الذى يأتى جانب كبير منه من الشرق الأوسط. تحول الشرق الأوسط فى العقيدة الخضراء إلى مصدر للشر، فمنه يأتى الكربون المدمر للكوكب، وفيه ثقافات ونظم حكم محافظة تقاوم الحريات ودعاوى مساواة النساء والمثليين. للخضر أنصار البيئة نفوذ كبير فى الحزب الديمقراطى الأمريكى، ولديهم تختلط عقيدة الحفاظ على البيئة، بعقيدة كراهية الرأسمالية والأغنياء، الذين تتسبب استثماراتهم ونمط حياتهم فى تدمير الكوكب. إنه نوع من اليسار البيئى والاشتراكية التى تجد لنفسها مبررا فى رفض مزيج المخاطر البيئية وعدم المساواة الاقتصادية. فى الشرق الأوسط تجسيد لكل ما يكرهه اليسار الأمريكى الأخضر، فهناك شيوخ محافظون، فاحشو الثراء، يتكسبون من بيع النفط، فهل فى هذه المنطقة ما يستحق البقاء فيها؟
كانت الحرب الباردة قد انتهت قبل عشرين عاما، ولم تعد الولايات المتحدة تخشى من قطب دولى آخر ينافسها النفوذ فى الشرق الأوسط. تصور الأمريكيون أن الشرق الأوسط الذى لم يعد مهما بالنسبة لهم، قد فقد أهميته بالنسبة لكل الأطراف الدولية الأخرى أيضا، وأنه لا يوجد سبب يدعو الروس والصينيين للاهتمام بالمنطقة، أو أن انقلابا فى علاقات القوى الدولية الكبرى، والعودة إلى سياسات التنافس بينها هو أمر محتمل، وأن انسحاب أمريكا من المنطقة قد يخلق فراغا يسعى لشغله آخرون.
إيران هى أقصى تهديد فكر فيه الأمريكيون، لكن لم يكن عند الأمريكيين ما يمنع توسيع النفوذ الإيرانى فى المنطقة، فصراعات السنة والشيعة، والعرب والفرس، هى صراعات بين أهل المنطقة المتشابهين فى القيم المحافظة، ورفض الديمقراطية، والإثراء من النفط، فليحلوا مشاكلهم بأنفسهم بعيدا عنا. يكفى أن نمنع إيران من التحول إلى قوة نووية حفاظا على أمن إسرائيل، أما أن توسع إيران نفوذها فى لبنان وسوريا والعراق واليمن، فهذه خلافات محلية قليلة الشأن، ليس لها أثر على مصالح أمريكا وأمنها.
أكد الرئيس بايدن أن الولايات المتحدة باقية فى المنطقة، وأنها لن تترك فراغا يشغله منافسو الولايات المتحدة الصينيون والروس. أخطر ما فى هذا الكلام هو ما يشير إليه من أن شيئا لم يتغير فى الرؤية الأمريكية للشرق الأوسط. فمنذ الحرب العالمية الثانية والولايات المتحدة ترى الشرق الاوسط من منظور النظام الدولى، فالمنطقة ليس لها أهمية خاصة فى حد ذاتها، وإنما أهميتها تستمدها من تأثيرها وتأثرها بالعلاقات بين القوى الكبرى. كان الشرق الأوسط مهما فى الماضى بسبب المنافسة السوفيتية للأمريكيين، وهو مهم الآن بسبب المنافسة الصينية والروسية، أما الشرق الأوسط فى حد ذاته فليس فيه أسباب ذاتية تغرى الأمريكيين للاهتمام به.
الأرجح أن زيارة الرئيس بايدن للشرق الأوسط ستضع حدا لتدهور العلاقات الأمريكية العربية، لكنها لن تعيد عجلة التاريخ إلى الوراء. لم تعد الولايات المتحدة تتمتع بنفس المصداقية والثقة التى تمتعت بها فى المنطقة فى فترات سابقة. العرب الحاليون ينظرون للولايات المتحدة كحليف مرغوب، لكنه غير أهل للثقة، وعليهم التحلى بالحذر الشديد فى علاقاتهم معه.
خلال سنوات الغياب الأمريكى أتقن العرب سياسة تنويع الشراكات وحفظ التوازنات، ووجدوا شركاء مهمين فى الصين وروسيا والهند وأوروبا. استثمر العرب كثيرا فى بناء هذه الشراكات الاقتصادية والنفطية والأمنية، وليسوا مستعدين لإهدار كل هذا الاستثمار لمجرد أن الولايات المتحدة قررت العودة للمنطقة. اللعب فى المنطقة الرمادية، مهارة أتقنها العرب خلال سنوات الغياب الأمريكى، وفى المنطقة الرمادية ستكون علاقات العرب بواشنطن فى مرحلة ما بعد زيارة بايدن.
نقلا عن الأهرام