شكَّلت الصراعات والنزاعات المسلحة في منطقة الشرق الأوسط، خلال السنوات الماضية، بيئة ميدانية مواتية لإجراء تجارب خاصة باختبار أنواع مختلفة من الأسلحة وتطويرها عملياً. فعلى سبيل المثال، تشير التقارير الرسمية الأمريكية إلى قيام الجيش الأمريكي بإجراء تجربتين عمليتين بين مايو ٢٠٢٠ ونوفمبر ٢٠٢١ باستخدام أسلحة موجهة تعتمد على الليزر من على متن المدمرة الأمريكية USS Portland في المسرح البحري لبحر العرب والبحر الأحمر. وقد انتهت التجربة الأولى بمحاكاة ناجحة لإسقاط طائرة من دون طيار “درونز”، في حين ركزت التجربة الثانية على اختبار استهداف زورق مُسيَّر. بينما تكشف العديد من تقارير التسلح عن أن شركات الأسلحة الأمريكية، مثل “رايثيون” و”لوكهيدمارتن” و”بوينج” وغيرها، تتجه إلى تطوير نماذج لمركبات تعمل بأسلحة الطاقة الحرارية، فضلاً عن إضافة بطارية رابعة لمنطومات الدفاع مثل “باتريوت” و”ثاد”.
أبعاد رئيسية
في واقع الأمر، فإن البدايات الحقيقية لهذه التجارب الأمريكية كانت في بعض الولايات الأمريكية، حسب طبيعة البيئة المناسبة لإجراء تلك الاختبارات. لكن التجارب البحرية التي تم الإفصاح عنها أجريت في منطقة الشرق الأوسط، وهو السياق الذي ينطوي على عدة أبعاد رئيسية يتمثل أبرزها في:
1- اختيار البيئة الميدانية المواتية: وهى بيئة الحروب والمعارك التي اندلعت على مسرح واسع في الشرق الأوسط خلال السنوات العشر الماضية، والتي يمكن اعتبارها بيئة مثالية من منظور تلك الجيوش والشركات المنتجة للأسلحة، كونها شكَّلت أول اختبار عملي للحروب والصراعات غير النمطية، فضلاً عن أن أطرافاً عديدة انخرطت فيها بما يعكس خريطة متنوعة من التشابكات من جيوش نظامية وفصائل مسلحة وجماعات إرهابية وغيرها، بالإضافة إلى تعدد طبوغرافيا تلك المسارح بين السهول والجبال وحروب المدن، وبالتالي اختلفت أنظمة وأنماط المعارك.
واللافت هنا، هو أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن القوة الوحيدة التي أجرت تلك التجارب. فعلى سبيل المثال، أجرى الجيش الروسي – وفق تقارير رسمية- ما يقرب من ٤٠٠ اختبار على الأسلحة المختلفة في الساحة السورية. كما أشارت تقارير رسمية تركية إلى أن الجيش التركي أجرى ما يقرب من ٣٠٠ اختبار على الأسلحة في ساحة الصراع في سوريا وأثناء معركة طرابلس في ليبيا والنزاع على إقليم ناجورني قره باغ بين أرمينيا وأذربيجان.
2- تحديد الأهداف الاستراتيجية للتجارب: سعت القوى التي أجرت تلك التجارب إلى تحقيق أهداف استراتيجية واضحة. فبالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، كان هناك حرص من جانبها على استخدام تلك التجارب في توجيه رسائل مباشرة إلى بعض الأطراف، في مقدمتها أنه رغم ما يشاع حول الانسحاب العسكري من المنطقة، إلا أنها لا تزال مُصِرَّة على تعزيز حضورها للدفاع عن المصالح، وأن تلك الاختبارات موجهة إلى التهديدات النوعية التي تتعرض لها تلك المصالح. وقد كان لافتاً في هذا الإطار، أن واشنطن ركزت على مصادر التهديد الإيرانية، لاسيما الدرونز والقوارب والألغام البحرية والصواريخ، على نحو بدا جلياً في إجراء اختبار لإسقاط درونز وتفجير زورق، بالتوازي مع نشر كاسحة ألغام بحرية في المنطقة ذاتها، والعمل على تحسين منظومات الدفاع كما سلفت الإشارة.
أما بالنسبة لروسيا وتركيا، فقد تم الإفصاح، في أضيق الحدود، عن طبيعة التجارب التي قامتا بها. وربما تم الاستدلال عليها عبر متابعة تحسن أو تطور القدرات. فعلى سبيل المثال، اهتمت روسيا برفع كفاءة البنية والأصول التحتية لآلياتها البحرية التي توسعت أنشطتها بشكل فارق في السنوات الست الأخيرة، بالإضافة إلى تحسين قدرات المنظومات الدفاعية متوسطة وقصيرة المدى بشكل أساسي في محيط قاعدة “حميميم” السورية. في حين ركزت تركيا على اختبار الدرونز في الساحة الليبية وخلال معركة ناجورني قره باغ، حيث مارست الدرونز التركية دوراً استراتيجياً في إطار الانخراط التركي لصالح أذربيجان في معركتها ضد أرمينيا.
3- التركيز على أسلحة المستقبل: وهى الصورة الأكثر وضوحاً في الحالة الأمريكية التي تعتمد على الطاقة الحرارية. وتُظهِر موازنات الدفاع الأمريكية في السنوات الخمس الأخيرة تمويلاً سخياً لهذه البرامج من الأسلحة، وربطها بمجال الذكاء الاصطناعي بطبيعة الحال. إذ لن يكون بمقدور الخصم إدراك نقطة انطلاق أو شكل الهجوم المضاد، فحتى الآن يمكن لمنظومات الرادار استكشاف تلك العملية، لكن مع أسلحة الليزر والطاقة الحرارية بشكل عام سيختلف الأمر. وسيبدو ذلك أقرب إلى نماذج “ألعاب الحرب” الافتراضية. وربما في الحالات الأخرى، مثل الصين وروسيا، فإن التطوير في هذا المجال لا يزال في مراحل أقل إذا ما قورن بالجانب الأمريكي. وبالتالي من المتوقع أن يكون سباق التسلح قد بدأ بالفعل في سياق هذه التجارب ما بين العديد من الدول التي يمكنها اقتناء وتطوير قدرات نوعية متقدمة في مجال التسلح.
4- التحذير من الديناميات المدمرة: استخدم الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير هذا المصطلح، في افتتاحه لمؤتمر ميونيخ للأمن، الذي عقد في الفترة من 14 إلى 16 فبراير 2020، كإشارة إلى مستقبل التسلح وصناعة الأسلحة التي تفوق سقف كافة التوقعات والاحتمالات، وهو السياق الذي يمكن فهمه من هذه التجارب في حقيقة الأمر، لاسيما ما سيتحقق من قفزات جيلية في هذا الصدد في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات الهائلة التي ستدير منظومات تسلح “شبحية” إلى حد كبير، على نحو يقود إلى طرح تساؤل بلا إجابة عن شكل سباقات التسلح في المستقبل على المدى المتوسط في ظل القفزات الجيلية الهائلة التي يشهدها مجال التصنيع العسكري في العالم.
5- تبني منظور مختلف للردع: لا تزال مفاهيم الردع السائدة تتسم بطابع تقليدي، لكن من المؤكد أن تلك الأنظمة الجديدة من الأسلحة ستفرض منظوراً مختلفاً للردع وموازين القوى، وذلك رغم أن مجال أسلحة الطاقة والليزر انطلق منذ مشروع “حرب النجوم” الأمريكي قبل نحو ثلاثة عقود، وما عكسه هذا المشروع من تجليات في حروب الفضاء. وهنا، فإن اتجاهات عديدة بدأت في طرح تساؤلات حول إلى أى مدى ستتاح هذه الأنظمة ولو أتيحت كيف ستغير من طبيعة معادلات الردع القائمة.
6- تصاعد تحديات ضبط التسلح: وهى إشكالية تكتسب أهمية خاصة، إذ كيف يمكن وضع ضوابط لسباقات التسلح والردع. ففي السابق، كان يمكن إبرام معاهدات للتعامل مع المخاوف من عملية انفلات التسلح التقليدي وفوق التقليدي، ورغم ذلك لم يكن هناك التزام صارم بتلك المعاهدات. وبالتالي هناك تحدٍ لوضع ضوابط للتعامل مع هذه الأسلحة التي ستختلف حسب الحجم أو آلية الاستخدام، فقد تم استخدام سلاح ليزر في التجربتين اللتين أجريتا على متن مدمرة أمريكية، بما يعني أنه يمكن تطوير بعض الأسلحة بتلك الأنظمة، على نحو يمكن التحايل من خلاله على الضوابط في حال وضعت بالأساس.
استحقاقات قادمة
في النهاية، يمكن القول إن منطقة الشرق الأوسط، باعتبارها إحدى أكثر البيئات التي شهدت حروباً ومعارك في الفترة الأخيرة، فضلاً عن أنها لا تزال تُشكِّل أحد أكبر أسواق التسلح في العالم، عليها أن تستعد في المستقبل لتصاعد تأثير هذه التطورات، كما سيتعين عليها، بشكل استباقي من الآن فصاعداً، الاهتمام بتداعياتها المحتملة وانعكاساتها على التفاعلات التي تجري بين دولها.