استدارة أنقرة:
التوجهات المحتملة في السياسة الخارجية التركية بعد فوز أردوغان بالعهدة الجديدة

استدارة أنقرة:

التوجهات المحتملة في السياسة الخارجية التركية بعد فوز أردوغان بالعهدة الجديدة



نظّم مركز “العالم العربي للأبحاث والدراسات المتقدمة”، بالقاهرة، بتاريخ 31 مايو 2023، جلسة استماع بعنوان “استدارة أنقرة: التوجهات المحتملة في السياسة الخارجية التركية بعد فوز أردوغان بالعهدة الجديدة”، واستضاف المركز الدكتور سمير صالحة، أستاذ القانون والعلاقات الدولية والعميد المؤسس لكلية القانون بجامعة غازي عنتاب (كمتحدث رئيسي في الجلسة عبر الزووم)، كما شارك في الجلسة عدد من الخبراء والباحثين المتخصصين في مجالات مختلفة، وهم: الدكتور محمد عز العرب، والدكتور محمد عباس ناجي، والأستاذ أحمد عليبة، والأستاذ عمرو عبدالعاطي، والأستاذ حسين معلوم، والدكتور حمدي بشير، والأستاذ محمد الفقي، والدكتور هيثم عمران، والأستاذ محمد عمر.

محددات رئيسية

يُحدد “صالحة” عدداً من المحددات الرئيسية في مسار التوجهات المحتملة في السياسة الخارجية التركية، عقب فوز رجب طيب أردوغان في انتخابات الرئاسة التركية، وهي كالتالي:

1- تراجع محتمل للضغوط على السياسات الخارجية: ثمة عدد من الملفات المرتبطة بترتيب المشهد الداخلي في تركيا، عقب فوز أردوغان في انتخابات الرئاسة التركية، وتحديداً على مستوى تشكيل الحكومة. وما يشغلنا في سياق السياسة الخارجية، وزارة الخارجية ومن سيتولى هذا المنصب، هل يستمر مولود جاويش أوغلو أم يتولى المسؤولية شخص آخر؟ خاصة وأن ثمة اتجاهات لإشراك شخصيات من خارج حزب العدالة والتنمية للمشاركة في العمل الحكومي، إضافة إلى منصب رئاسة جهاز الاستخبارات.

كما أن ثمة تحركات من قبل بعض الأحزب الصغيرة مثل حزب المستقبل الذي يتزعمه أحمد داود أوغلو لتشكيل تكتل برلماني مستقل عن حزب الشعب الجمهوري، بما يعني أن المعارضة ستكون مفككة تحت قبة البرلمان، بما يؤدي إلى عدم وجود معارضة قوية لسياسات حزب العدالة والتنمية والرئيس التركي تحت القبة.

2- رغبة إقليمية أوسع لـ”تصفير المشكلات” في الشرق الأوسط: رغم أن تركيا خلال العامين الماضيين على وجه الخصوص تتجه إلى مسارات التهدئة الإقليمية بما يُعرف بـ”تصفير المشكلات”، إلا أنه يلاحظ أن هذا المسار لا يقتصر فقط على أنقرة، وإنما يمتد لدول إقليمية أخرى.

وبات مسار “تصفير المشكلات” رغبة إقليمية واسعة، تتلاقى فيها تركيا مع عدد من الدول بالمنطقة، بما يمهد لتفاهمات سياسية جديدة، وهذه الرغبة تعكس تحولاً في التوجهات الحاكمة بالإقليم، بما يُعزز من المسار التركي الذي بدأ قبل فترة للتهدئة الإقليمية، وقد يفتح الباب أمام مرحلة إقليمية جديدة للتنسيق بين الدول لحماية المصالح المشتركة.

3- تسريع النهج الانفتاحي عقب الانتخابات الرئاسية: العامل الداخلي في توجه أردوغان إلى تغيير السياسةالخارجية التركية منذ عامين كان حاضراً، في ظل مأزق داخلي يرتبط بالسياسة الخارجية، وانعكس على مصالح تركيا اقتصادياً ومالياً وسياسياً، ويمكن العودة إلى بيانات جامعة الدول العربية التي كانت توجه رسائل لتركيا. ولكن بشكل عام، عقب الانتخابات يتوقع استمرار نفس النهج الانفتاحي.

ويمكن النظر إلى نتائج التحول في السياسة الخارجية التركية، من خلال 110 اتصالات أو برقيات تهنئة لفوز أردوغان، وهو أمر لم يكن متخيلاً قبل 3 أو 4 سنوات ماضية، إضافة إلى الاتصال الهاتفي من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكان لافتاً الاتصال من قبل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وقرار رفع التمثيل الدبلوماسي.

4- إعادة تعريف المحيط التركي الجديد: خلال كلمة لأردوغان أمام اتحاد نقابات رجال الأعمال، وهو مركز ثقل أساسي في تركيا، تطرق إلى أن الهدف هو إنشاء حزام من الأمن والسلام،وهذا يجلعنا نتساءل عن أي أسس لإنشاء هذا الحزام وفي أي اتجاه؟ وهل هذا الحزام في المحيط التركي جديد أم قديم؟

فالمحيط التركي استراتيجياً تغير، ولكن هناك أولويات وهي منطقة الشرق الأوسط وحماية مصالح تركيا في تلك المنطقة، ولكن الوجود التركي وصل العمق الأفريقي وإلى منطقة القوقاز، والبحر الأسود. صحيح كان لتركيا وجود في تلك المناطق خارج الشرق الأوسط، ولكن بات هناك انخراط وعمق أكبر.

ولكن تحديد مساحة هذا المحيط أو الحزام لا يتوقف على تركيا فقط، فهذا يرتبط بالطرف الآخر حسب المنطقة الجغرافية والعلاقات الجيوستراتيجية، وهنا يأتي دور اللاعب الجديد، من سيجلس مع أنقرة، في هذه المعادلة، وفي أي إطار؟.

وبعيداً عن القوى الإقليمية في نطاق الحزام التركي المشار إليه، فإن ثمة شركاء لتركيا من القوى الدولية مثل روسيا والصين، وخاصة مع تحركات تركيا في القوقاز وأذربيجان، سيما وأنّ روسيا قلقة من تحركات أنقرة في منطقة القوقاز.

5- بروز معادلة “تركيا القوية بالآخرين”: يمكن اعتبار التحول في السياسة الخارجية التركية خلال الفترة الماضية، جزءاً من معادلة رئيسية وهي “تركيا القوية بالآخرين”، وهي معادلة جديدة لأنقرة، وستظهر للعلن خلال الفترة المقبلة في ضوء سياسة الانفتاح على الدول الإقليمية، ومن هنا يمكن استكشاف من يرغب في التنسيق مع تركيا على مستوى الملفات الإقليمية.

وإذا نظرنا لهذه المعادلة التركية، فإنها تعني أيضاً أن دولاً أخرى ربما ترى ضرورة تحقيق هذه المعادلة بالنسبة لها. فمثلاً “مصر قوية بالآخرين”، وهو ما يدعم عملية التقارب بين الدول الإقليمية خلال الفترة المقبلة، خاصة أن الانفتاح والتهدئة القائمة فرصة تاريخية في الإقليم ينبغي الاستفادة منها.

تحديات قائمة

ويشير “صالحة” إلى عدد من التحديات التي تواجه تحقيق التقارب وحدوده بين تركيا وعدد من الدول الإقليمة بالشرق الأوسط خلال الفترة المقبلة، وتحديداً على مستوى عدد من الملفات، وأبرزها:

1- اختبار حدود التحولات الإقليمية للتهدئة: صحيح أنالتحول الجديد في السياسة الخارجية التركية، والرغبة الإقليمية في مسارات التهدئة، يعطي تركيا فرصة لمواصلة ما بدأته، خاصة مع مواصلة الاتصالات ورسائل الانفتاح المتبادلة بين أنقرة وعواصم إقليمية أخرى؛ ولكن الامتحان الحقيقي لهذا الانفتاح هو حدود التقارب مع مرحلة اختبار لهذا التحول في بعض الملفات.

وهذا الاختبار سيحدد ما إذا كانتهناك رغبة في اتجاه الاستمرار في مسار التحول على مستوى الأطراف المؤثرة في الإقليم، لأن عدم النجاح سيؤدي ربما إلى العودة للوراء للسياسات القديمة، كما أن ثمة تساؤلاً: هل التحول الذي يتم التحدث عنه الآن، سيقود إلى مرحلة إقليمية جديدة؟ والحديث هنا لا يتطرق إلى تشكيل منظمة إقليمية جديدة، ولكن مرحلة تنسيق باتجاه حماية المصالح المشتركة في الإقليم.

ولا يتوقف التحول في مسار التهدئة إقليمياً على تركيا فقط، وإنما يتصل أيضاً بدول المنطقة، ورؤيتها لمنح فرصة للتعاطي مع الأطراف المؤثرة الأخرى في الإقليم.

2- وضع خطوط حمراء تركية في بعض الملفات: رغم نهج الانفتاح التركي وبروز مسارات التهدئة الإقليمية، إلا أن أردوغان عنيد في بعض ملفات السياسة الخارجية، فيمكن القول إن ثمة خطوطاً حمراء لأنقرة،باعتبارها أمراً واقعاً وجزءاً من تركيبة السياسات الداخلية والخارجية للدولة التركية، وتحديداً على مستوى الدائرة الجغرافية الأولى مثل العراق وسوريا و”قبرص اليونانية”، وملف الطاقة في شرق المتوسط، وهي ملفات مهمة للغاية بالنسبة لتركيا، وربما تكون هناك فرصة للدول في التعامل مع تركيا، ولكن من يرغب في تحدي تركيا يمكنه التصعيد في تلك الملفات.

في مقابل الخطوط الحمراء للسياسة الخارجية التركية، فإن هناك “لوناً رمادياً” في بعض الملفات، خاصة مع توسيع الدائرة جغرافياً، فأنقرةجاهزة للحوار والانفتاح مع الآخرين على مسائل فيما يتعلق بالجغرافيا المتداخلة.

3- رسم السياسات في الملفات المتشابكة: هناك ملفات متشابكة بين تركيا وبعض الدول الإقليمية، وتحتاج إلى تحقيق تفاهمات، والتي لا تقف على حدود الانفتاح وإنما تواجه تحدي رسم السياسات لتسوية تلك الملفات الشائكة، وعلى سبيل المثال ملف الأزمة الليبية، وتداخلها مع ملف الطاقة في شرق المتوسط، وسياسات مصر تجاه قبرص واليونان.

كما أن ثمة نهجاً انفتاحياً بين تركيا وسوريا، إضافة للدول العربية وسوريا، ومثل هذا الانفتاح الإقليمي على سوريا يمكن أن يساهم في تسريع التفاهمات حول هذا الملف، مع إمكانية زيادة الطاولة الرباعية المكونة من روسيا وتركيا وإيران وسوريا، إلى طاولة خماسية وسداسية، ولكن من الأطراف الجديدة، وهذا سيتضح مستقبلاً.

كما أن هناك وجوداً تركياً في أفريقيا، فكيف سيكون التنسيق والاحتمالات بين أنقرة وبعض الدول لإدارة مسألة التوازنات في القارة مع الأطراف الأخرى، خاصة وأن تركيا لن تقدم على سحب وجودها العسكري من الصومال لإرضاء طرف معين مثلاً، ولكن هناك ملفات قابلة للمساومة.

4- احتمالات عرقلة التفاهمات والتقارب الإقليمي: الانفتاح التركي والأطراف الإقليمية خلال الفترة الماضية ربما أقرب للتنسيق والتفاهم مع روسيا والصين، مقارنة بالولايات المتحدة الأمريكية والمجموعة الأوروبية،وهذا يتعارض مع مصالح الطرف الأخير، بما يطرح تساؤلاً حول إمكانية سماح الولايات المتحدة بهذا التحول الإقليمي الذي يظهر قدرة دول المنطقة على العمل لمصالحهابعيداً عن المسار الأمريكي، وهذا بالتأكيد يهدد مصالح الولايات المتحدة.

وربما تُقدم الأطراف الخارجية على التأثير على فرص التقارب التركي مع دول الإقليم ضمن سياسات التهدئة، خاصة وأن الولايات المتحدة ستجد صعوبة في حماية مصالحها بالإقليم إذا لم نمنحها فرصة إضافية لتشارك في بعض الملفات، ولكن هذا يتوقف على حدود قدرة الدول الإقليمية على الرد ضد التحركات الأمريكية.

يمكن اعتبار أن هناك تراجعاً للولايات المتحدة على مستوى الملف السوري لصالح الطاولة الرباعية في موسكو، خاصة مع رفض تركيا سياسة الولايات المتحدة في هذا الشأن، وعلى دول الإقليم الاستفادة من التباعد التركي الأمريكي، فمن يرغب في الاستفادة منه يتحرك باتجاه أنقرة، ومن يرى أنها فرصة لإضعاف تركيا يذهب للاتجاه المعاكس ويتقارب مع أمريكا، ولكنها معادلة خاطئة.

5- ترتيب الملفات مع دول الخليج: العلاقات التركية مع دول الخليج اتسمت بالانفتاح خلال الفترة الماضية. وبشكل عام، فإن تركيا عدلت سياساتها مع دول الخليج، فمع السعودية بات هناك مسار جديد، وأردوغان شكر دول الخليج على أموال الودائع، وهذا تصريح قد يوحد المعارضة ضده أكثر، لكن لم يكن لديه أي مشكلة مع تصريح من هذا النوع.

ولكنّ هناك مساراً جديداً يتشكل في الملف السوري، هناك دول تدفع إلى التقارب مع سوريا، ولكن في المقابل هناك رفض لهذا المسار من قبل قطر على وجه التحديد، والتي تتمتع بعلاقات قوية مع أنقرة، وهو أحد التحديات في مسار إعادة التموضع التركي في سوريا، خاصة مع الاتفاق السابق بين أنقرة والدوحة على إنشاء مدينة شمال سوريا.

وتراهن تركيا على دول خليجية في مساعدة تركيا على العديد من الملفات والأزمات، وتحديداً في سوريا والعراق. هناك تلاقٍ يحتاج إلى قوة دفع بالنسبة لتركيا، ولكنها فرصة أيضاً لدول الخليج. على سبيل المثال، الإمارات تلقت الرسالة وبدأت بعد المصالحة التركية الإماراتية في تفعيل هذا الانفتاح والتنسيق مع تركيا في الملف السوري.

تسريع الانفتاح

يرى أستاذ القانون والعلاقات الدولية أن الانفتاح التركي على الدول الإقليمية في الشرق الأوسط خلال الفترة الماضية، سيظل نهجاً ثابتاً للسياسة الخارجية التركية، متوقعاً الاتجاه التركي إلى تسريع هذا الانفتاح والتحول، وتفعيله خلال الفترة المقبلة على مستوى عدد من القضايا والملفات المهمة لكل الأطراف الإقليمية في ضوء فرصة تاريخية.

ويتطرق إلى الحديث عن توجه أردوغان لقضاء فريضة الحج، وحدود ارتباط ذلك بجولة خليجية عقب فوزه في الانتخابات الرئاسية، ولكن لا بد أن تكون الأولوية في الزيارات الخارجية للرئيس التركي إلى القاهرة.