التدهور الليبى المتوقع – الحائط العربي
التدهور الليبى المتوقع

التدهور الليبى المتوقع



أخطر ما فى المشكلة الليبية أنها وصلت إلى مرحلة من التعقد والتشابك بحيث لم يعد أحد يتوقع إلا المزيد من التدهور، ولقد ذكّرت اشتباكات العاصمة الليبية، الأسبوع الماضى، العالم بخطورة الأوضاع، وقد أدى ما تبقى من قدر من الحكمة، فضلًا عن الإدانات والنداءات الدولية، إلى وقف هذه الاشتباكات غالبًا مؤقتًا، وكان البيان المصرى حاسمًا فى ضرورة وقف القتال وكذا جامعة الدول العربية والأمم المتحدة والسفارة الأمريكية فى طرابلس بإعلان إدانتها وخشيتها من تردى الأوضاع وانفلاتها، وبدا الحل المعتاد فى ضرورة العودة إلى الهدوء وتجميد الموقف، وهو عنوان الأوضاع الليبية منذ فترة ليست قصيرة.

الفصل الأخير فى الصراع تمثل فى تكليف مجلس النواب لليبى فتحى باشاغا، وزير الداخلية السابق فى حكومة الوفاق، برئاسة الوزراء، بعد أن سحب الثقة من رئيس حكومة الوحدة الوطنية «الدبيبة» لفشله فى عقد الانتخابات ديسمبر الماضى، وفى البداية حاول «باشاغا»- الذى كان فى السابق خصمًا لمعسكر مجلس النواب وخليفة حفتر، ثم نجح فى التقارب معه، بل الحصول على الترشح لرئاسة الوزراء- نقول حاول دخول العاصمة، ولكن أدى هذا إلى توتر وتهديد باشتباكات، فضل معها الانسحاب، وأعلن أنه سيحاول دخول العاصمة سلميًّا، ثم أعلن أنه سيمارس عمله من مدينة سرت، ولم يتمكن بطبيعة الحال، وفشلت جولات التفاوض بين الطرفين، ومن ثَمَّ عاد التوتر هذه المرة فى شكل اشتباكات عسكرية، كانت بدورها متوقعة، ربما منذ بدايات هذا الفصل الجديد من المشكلة.

وهكذا تواصل المشكلة الليبية أو تلك الأزمة المزمنة تأكيد ما وصفته منذ عدة أعوام بـ«المسار الدائرى»، حيث تنتقل من أزمة وتصعيد إلى جهود تسوية تؤدى لاحقًا إلى المزيد من التعقيد والفوضى، فى شكل فصول متلاحقة، وهنا أجدنى مضطرًّا إلى تكرار مصدر هذا الإخفاق والفشل الممتد منذ سنوات نشأة هذه التطورات وأساسه إخفاق فلسفة التفاوض التى سادت ونهج التسويات الذى اتُّبع منذ التدخل الأممى، الذى أعقب تدخل الناتو بقيادة فرنسا للإطاحة بالقذافى فى 2011، وبعدها بدأ نهج أممى أزمن ارتكاب الأخطاء، التى وصلت قمتها فى اتفاق الصخيرات بالمغرب عام 2015، وهذا النهج ليس وحده المسؤول عن المشكلة، ولكنه وضع بذرة الارتباك المزمن.

ودون تحديد صريح لمنبع هذا النهج الخاطئ، سيستمر دوران الأزمة فى مساراتها المغلقة، ومكونات هذا النهج متشابكة وكلها خاطئة، فهى لم تعالج أبدًا وبشكل حاسم مسألة الميليشيات المسلحة والسلاح خارج منظومة الدولة، كما أنه قام منذ الصخيرات وحتى قبله فى التعاطى الغربى مع المشكلة على فكرة إشراك الإسلام السياسى والمراهنة على دور إيجابى له سيحوله إلى الاعتدال. والأخطر إعطاؤه مساحة من الحكم والتواجد تزيد على مساحة حظوظه الفعلية فى المجتمع، والتى أكدتها كل تجربة انتخابية منذ الإطاحة بالقذافى، وفى الحقيقة أن هذا الافتراض مبنى على عدم فهم دقيق لطبيعة المجتمع الليبى المتدين، ولكن ما لا يفهمه الغرب أن التدين العميق لا يعنى الإسلام السياسى، فالمواطن الليبى بفطرته لا يميل إلى هذا المنحى.

ولكن المشكلة بالقطع لا تقتصر على هذا، فقد كشفت عن إشكالية عميقة فى تركيبة المجتمع الليبى، وهى كثرة قياداته بلا حدود، وأن هناك صعوبة ملحوظة- بل ربما تصل إلى حالة الاستحالة حتى الآن- فى إجماع أغلبية ملموسة على إعطاء مكانة وتفويض حقيقى لقيادة مخلصة تعطى الأولوية لإخراج البلاد من هذه الورطة الصعبة.

ولا يمكن أيضًا تجاهل أن المشكلة كرست من اتجاهات قبلية ومناطقية، لم تختفِ من المجتمع الليبى أبدًا، ولكنها كانت تحت سيطرة القذافى بشكل أو آخر، وأخشى أن لغة الخطاب السياسى التى يستخدمها «الدبيبة» تحمل قدرًا كبيرًا من المخاطر، فالرجل وبعض مؤيديه يُحملون الصراع الداخلى الدائر حاليًا سمة خطيرة مرتبطة بالتخويف من الشرق وتتجاوز حتى التخويف التقليدى من خليفة حفتر، والذى تروج له الميليشيات المتطرفة، وطبعًا يحرص فى كل بياناته على طرح معسكره بأنه معسكر الدفاع عن الدولة المدنية، وكأن أى شىء يأتى من مجلس النواب تعبير عن طموحات حفتر، حتى لو كان فى شكل السيد باشاغا، الذى كان عضوًا فى نفس المعسكر الذى ينتمى إليه «الدبيبة».

وفى الواقع أن أحد أهم جوانب غرابة المشهد الراهن أن «باشاغا» كان عنصرًا بارزًا فى هذا المعسكر، وما تغير هو أنه نجح فى التقارب مع مجلس النواب وحفتر، وحتى تعيينه رئيسًا للوزراء من جانب مجلس النواب كان مصنفًا فى خانة المعسكر الهلامى لمنظومة الحكم فى طرابلس، والتى أغلبها وليس كلها منتمية إلى الإسلام السياسى والميليشيات المهيمنة على طرابلس، وهو معسكر يعانى الانشقاقات والمواجهات العسكرية، ولا يوحده سوى الصراع ضد معسكر الشرق الذى يقوده مجلس النواب وحفتر، والذى يجمعه أيضًا أمر رئيسى، وهو التحفظ ضد قوى الإسلام السياسى ودون تفاهمات حقيقية أعمق من هذا، والدليل تنافس رموزه فى الانتخابات الرئاسية التى لم تُعقد.

المؤكد أنه بدون عملية سياسية حقيقية تتعامل مع مكونات المشكلة كاملة وليس بشكل جزئى، فإن ليبيا ستظل تدور فى مساراتها الدائرية المغلقة.

نقلا عن المصري اليوم