ثمة تداعيات محتملة للاحتجاجات التي تشهدها كازاخستان على الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، والتي تتمثل في تأثيرات متباينة لارتفاع أسعار النفط بالنظر إلى أن كازاخستان هي أكبر دولة منتجة للنفط في آسيا الوسطى، وتهديدات محدودة نسبياً للمصالح الاقتصادية، وتزايد الاهتمام الصيني باتفاقية التجارة الحرة مع دول الخليج، وتنامي مخاطر صعود التنظيمات الإرهابية في ظل الارتباط الوثيق بين منطقتي الشرق الأوسط وآسيا الوسطى؛ إذ يمكن أن يؤدي استمرار أوضاع عدم الاستقرار في كازاخستان إلى امتدادها إلى الدول المجاورة لها، على نحو قد يُسفر عن انتعاش دور التنظيمات الإرهابية في منطقة آسيا الوسطى. علاوة على تراجع اهتمام واشنطن بمنطقة الشرق الأوسط لصالح ملفات أخرى، سيأتي في مقدمتها التنافس مع روسيا في منطقة آسيا الوسطى، وممارسة مزيد من الضغوط على الدور الروسي في الشرق الأوسط بما في ذلك وجودها في سوريا.
تسببت الاحتجاجات التي شهدتها كازاخستان خلال الفترة الماضية، والتي تزامن معها موجة عارمة من الاضطرابات وأعمال العنف، في صدمة كبيرة للعديد من المراقبين، بالنظر لتاريخ البلاد الذي تميز لعقود طويلة بالاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي. وفي حين تُشير التصريحات الصادرة مؤخراً عن الحكومة الكازاخية إلى أن الأوضاع في البلاد تتجه نحو التهدئة؛ فإن جذور الأزمة لا تزال موجودة ويمكن أن تتجدد أعمال العنف مرة أخرى، مما يعني أن مستقبل البلاد لا يزال غير واضح، الأمر الذي يُثير التساؤل بشأن التأثيرات المحتملة للأزمة الراهنة على منطقة الشرق الأوسط والدول العربية على وجه التحديد، وذلك بحكم القرب الجغرافي والتقارب الديني والثقافي بين منطقتي آسيا الوسطى والشرق الأوسط.
انعكاسات متنوعة
تتمثل أبرز التأثيرات الناتجة عن احتجاجات كازاخستان على الوضع في الشرق الأوسط، على النحو التالي:
1- تأثيرات متباينة لارتفاع أسعار النفط: تُمثّل الاضطرابات في كازاخستان، العضو في منظمة الدول المنتجة للنفط (أوبك)، محفزاً جديداً يُسهم في رفع أسعار النفط بالأسواق العالمية، على المدى القصير، وسط خشية المستثمرين من احتمال انقطاع الإمدادات؛ حيث تجاوز خام برنت عتبة 83 دولاراً للبرميل الواحد خلال الأيام الماضية.
تأتي هذه المخاوف بالنظر إلى أن كازاخستان هي أكبر دولة منتجة للنفط في آسيا الوسطى، حيث تنتج نحو 1.6 مليون برميل يومياً من النفط الخام، وتحتل المرتبة الـ12 لاحتياطيات الخام المؤكدة عالمياً، بحسب إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، والذي يُقدر بحوالي 30 مليار برميل.
ويمكن أن يكون لارتفاع أسعار النفط بفعل اضطرابات كازاخستان، وزيادة الطلب العالمي بسبب فصل الشتاء، وتعطل الإمدادات بفعل جائحة (كوفيد-19)؛ تأثيرات متباينة على الدول العربية، فدول الخليج المنتجة للنفط ستحقق فوائد اقتصادية وإيرادات كبيرة في ظل ارتفاع الأسعار، في حين ستتضرر البلدان العربية المستوردة له، مثل الأردن وتونس والمغرب ولبنان وسوريا، وستزداد الضغوط على موازناتها العامة.
2- تهديدات محدودة نسبياً للمصالح الاقتصادية: لا ترتبط الدول العربية بعلاقات تجارية وثيقة بكازاخستان، فلا توجد دولة عربية واحدة تقع في قائمة أكبر خمسة شركاء تجاريين لكازاخستان؛ حيث تتصدرهم إيطاليا، الصين، روسيا، هولندا، وفرنسا. في المنطقة العربية، تُعد الإمارات العربية المتحدة أكبر شريك تجاري لكازاخستان، بتجارة ثنائية تجاوزت نصف مليار دولار أمريكي خلال عام 2019.
ومع ذلك، يمكن أن تتضرر الاستثمارات الخليجية والإماراتية -تحديداً- في حال تدهورت الأوضاع في كازاخستان وانتشرت الفوضى هناك؛ حيث اتجهت معظم الاستثمارات الإماراتية في آسيا الوسطى إلى كازاخستان، التي يعمل بها أكثر من 350 شركة إماراتية باستثمارات بلغت 181 مليون دولار عام 2020. وقد حصلت شركة موانئ دبي العالمية التي تتخذ من دبي مقراً لها مؤخراً على حصة تبلغ 49% في المنطقة الاقتصادية الخاصة في ميناء أكتاو على بحر قزوين، و51% في المنطقة الاقتصادية الخاصة في مدينة خورجوس لإعادة الشحن، على حدود كازاخستان – الصين؛ وهو ما يُشير إلى خطط الإمارات لزيادة كمية البضائع التي تمر بالسكك الحديدية والشاحنات من خورجوس وبحر قزوين إلى أوروبا. وتجدر الإشارة إلى أن الاستثمارات الإماراتية تتركز في قطاعات البنية التحتية واللوجستيات والزراعة والأمن الغذائي، وكذلك الطاقة والتعدين، وهناك خطط إماراتية لبناء مجمع كيميائي بمليارات الدولارات في منطقة أتيراو في كازاخستان.
لذلك، سارعت دولة الإمارات -في بيان لوزارة خارجيتها- للتأكيد على “دعمها لجهود كازاخستان في الحفاظ على أمنها واستقرارها، وذلك ضمن إطار المؤسسات وسيادة القانون والدستور، وبما يحقق آمال وتطلعات الشعب الكازاخستاني”، كما قام سمو الشيخ “محمد بن زايد آل نهيان” ولي عهد أبوظبي بإجراء اتصال هاتفي مع رئيس جمهورية كازاخستان “قاسم جومارت توكاييف”، أكد خلاله دعم دولة الإمارات لكل ما يحقق استقرار كازاخستان ويحفظ أمنها ومؤسساتها وسلامها الاجتماعي.
3- تزايد الاهتمام الصيني باتفاقية التجارة الحرة مع دول الخليج: لم يكن مفاجئاً أن تتزامن الأحداث في كازاخستان مع دعوة وزير الخارجية الصيني ” وانغ يي” لوزراء خارجية الكويت، السعودية، عُمان، البحرين، إضافة للأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، لزيارة بكين لمناقشة سبل إحداث تقدم في اتفاقية التجارة الحرة بين دول مجلس التعاون الخليجي والصين. ورغم أن موعد الزيارة ربما قد حُدد مسبقاً، فإن ذلك لا يمنع التأكيد على دلالة توقيتها، خاصة أن الصين التي هي أكبر مستورد للنفط الخام في العالم، تشعر بالقلق بسبب ارتفاع أسعار النفط عالمياً، إضافة إلى مخاوف بكين، أكبر مستورد للطاقة من كازاخستان (تزود بكين بما لا يقل عن 5% من واردات الغاز الطبيعي)، من أن تؤدي الاضطرابات في البلاد إلى تهديد مصادر وارداتها من الطاقة في ظل شكوك بشأن قدرة الدولة على الاستمرار في إنتاجها للنفط.
لذلك، تسعى بكين في الوقت الراهن إلى تسريع إجراءات التوصل لاتفاقية التجارة الحرة مع دول مجلس التعاون الخليجي، لضمان إمداداتها من الطاقة اللازمة لاستمرار نموها الاقتصادي، ولضمان تنوع مصادر وارداتها من الطاقة. لذلك، يمكن النظر إلى أزمة كازاخستان في أحد جوانبها باعتبارها مصدر “فرصة” لدول مجلس التعاون الخليجي، في ظل المكاسب الاقتصادية الضخمة التي يمكن إحرازها من توقيع هذه الاتفاقية، وانعكاسات ذلك على توثيق العلاقات الخليجية مع الصين، التي يمكن أن تُمثِّل شريكاً موازناً للولايات المتحدة في المنطقة.
4- تنامي مخاطر صعود التنظيمات الإرهابية: تعكس اتهامات الرئيس الكازاخي، بصرف النظر عن مدى صحتها، بأن المسؤولين عن الاحتجاجات “عصابات إرهابية دولية تلقوا تدريباً خاصة بالخارج، بعضهم من الشرق الأوسط”، الارتباط الوثيق بين منطقتي الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. إذ يمكن أن يؤدي استمرار أوضاع عدم الاستقرار في كازاخستان إلى امتدادها إلى الدول المجاورة لها، على نحو قد يُسفر عن انتعاش دور التنظيمات الإرهابية في منطقة آسيا الوسطى، ومنها تنظيم خراسان التابع لداعش في أفغانستان التي تُعاني من الفراغ الأمني بعد الانسحاب الأمريكي منها، بالإضافة إلى ما يُسمى “حزب التحرير الإسلامي الأوزبكي”، و”الحركة الإسلامية لأوزبكستان”، التي تربطها علاقات قوية بحركة طالبان، و”الحزب الإسلامي التركستاني”، و”منظمة الأكرمية الإسلامية”، و”حركة النهضة الطاجيكية”؛ وهو ما قد يُعطي دفعة قوية لتلك الموجودة في منطقة الشرق الأوسط لاستعادة نشاطها وحيويتها، في أعقاب الضربات العسكرية والخسائر المتلاحقة التي تعرضت لها.
على هذا الأساس، يمكن القول إن الأزمات السياسية وأوضاع عدم الاستقرار التي قد تعاني منها دول آسيا الوسطى في حال لم تتم تهدئة الأوضاع في كازاخستان، سوف تمتد تأثيراتها إلى دول الشرق الأوسط.
5- تراجع الأهمية الجيواستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط: مع تنامي الاهتمام الأمريكي في عهد الرئيس “جو بايدن” بعدد من الملفات الدولية، بما في ذلك التنافس مع الصين في منطقة الإندوباسيفيك والأزمة الأوكرانية، بدأ يتراجع التزام واشنطن تجاه حلفائها التقليديين في الشرق الأوسط.
ويمكن أن تُؤدي الأزمة في كازاخستان إلى مزيد من تراجع الاهتمام الأمريكي بالمنطقة في المستقبل، لصالح ملفات أخرى، سيأتي في مقدمتها التنافس مع روسيا في منطقة آسيا الوسطى. سوف تسعى واشنطن لتعزيز حضورها في هذه المنطقة، ذات الموقع الجيواستراتيجي المحوري، والثروات الطبيعية الوفيرة، باعتبارها محاولة من جانبها لمزاحمة النفوذ الروسي والصيني المهيمن هناك.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن سعي واشنطن لتعزيز حضورها في آسيا الوسطى، وتشجيعها على وجود نظام حاكم في كازاخستان موالٍ للغرب؛ يمكن أن يُضعف من نفوذ موسكو في المنطقة، وربما يُمثِّل قوة ضغط كبرى عليها لمنعها من تهديد أمن بعض الدول الصديقة للغرب، وتحديداً أوكرانيا وجورجيا.
وهو الأمر الذي يُمكن أن يحوّل منطقة آسيا الوسطى إلى ساحة جديدة للتنافس على النفوذ بين القوى الكبرى، وكذلك بين القوى الإقليمية ولا سيما تركيا وإيران. وقد يمهد ذلك لانتقال التنافس الأمريكي / الروسي إلى ساحات بديلة / موازية للشرق الأوسط، الذي يُعاني بالفعل من العديد من الأزمات.
6- مزيد من الضغوط على الدور الروسي في الشرق الأوسط: يمكن أن يُضاعف الاهتمام الروسي المتزايد بعدد من الملفات الملحة، سواء في أوكرانيا وحشدها آلاف الجنود على الحدود معها، إضافةً إلى تدخلها عسكرياً في كازاخستان ضمن قوات منظمة معاهدة الأمن الجماعي، واضطلاع جنودها بالدور الرئيسي في حماية المنشآت الحيوية بالبلاد؛ من الأعباء العسكرية المفروضة عليها. ربما يكون ذلك عاملاً ضاغطاً على الحضور الروسي في بعض الملفات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك وجودها العسكري في سوريا.
من ناحية أخرى، يمكن أن تُؤدي قراءة روسيا لما حدث في كازاخستان، التي تمتد حدودها البرية مع روسيا إلى 7600 كم، باعتبارها محاولة غربية لتهديد أمن دولة تقع في مجالها الحيوي المباشر وبالتبعية تهديد أمنها القومي، إلى اتجاهها لتصعيد المواجهة مع الغرب في بعض ملفات الشرق الأوسط، بما في ذلك البرنامج النووي الإيراني والعلاقة مع حزب الله.
تكفي الإشارة إلى تصريحات السفير الروسي في الولايات المتحدة “أناتولي أنتونوف”، في 8 يناير الجاري، التي أكدت أن موسكو لم تفوت أزمة كازاخستان للتذكير بالتداعيات السلبية للتدخل العسكري الغربي في الشرق الأوسط؛ حيث قال إن “انتشار الأيديولوجيات الدينية المتطرفة في آسيا الوسطى ناتج عن التدخلات العسكرية الغربية في الشرق الأوسط، بحجة الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية، والتي أدت إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة”.
تداعيات مختلطة
من جملة ما سبق، يمكن القول إن التداعيات المترتبة على أزمة كازاخستان، حتى في حال تمّ احتواؤها قريباً، ستستمر لمدة طويلة في المستقبل، وهو ما يُهدد مكانة البلاد كواحة للاستقرار في آسيا الوسطى. وفي حين أن هذه الأوضاع ربما ستُعطِّل عدداً من الخطط الاستثمارية المستقبلية لبعض دول الخليج، وقد تُفسح المجال لاستعادة التنظيمات الإرهابية نفوذها في منطقة الشرق الأوسط؛ فإنها يمكن أن تولد الظروف المحفزة للتغلب على العقبات التي تعوق التوصل لاتفاقية التجارة الحرة بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي، كما سيكون لارتفاع أسعار النفط الناتج عن أزمة كازاخستان تأثير إيجابي على اقتصادات بعض دول المنطقة.