التحولات العميقة فى النظام الإقليمى – الحائط العربي
التحولات العميقة فى النظام الإقليمى

التحولات العميقة فى النظام الإقليمى



على مدى سنوات، عاشت منطقتنا فى إطار «النظام العربي» الذى تبلورت أسسه فى ميثاق جامعة الدول العربية مارس 1945. وابتداء من حقبة السبعينيات، ثار نقاش فى أوساط المثقفين العرب حول العلاقة ما بين «النظام العربي» و«النظام الشرق أوسطي». وكان الرأى الذى أخذت به وصديقى الأستاذ جميل مطر فى كتابنا المشترك عن النظام الإقليمى العربى الذى صدرت طبعته الأولى فى بيروت 1979، أن العلاقات العربية ـــ العربية مازالت تمثل التفاعلات الجوهرية فى المنطقة، مع وجود دول جوار جغرافى هى تركيا وإيران وإسرائيل.

منذ هذا التاريخ، مرت مياه كثيرة فى توزيع عناصر القوة بين الدول العربية وتراتبية الأدوار والنفوذ، وفى أنماط علاقات هذه الدول ببعضها البعض، وفى علاقاتها بدول الجوار الجغرافي. انتقلت مصادر القوة من مكان لآخر فتراجعت قوة دول ودخل بعضها فى آتون حروب وأزمات داخلية ممتدة، وفى المقابل تزايدت عناصر القوة لدول أُخرى فتصاعد نفوذها. وتغيرت أنماط التحالفات والمنافسات، وازداد دور دول الجوار غير العربية فارتفع رصيدها من القوة والنفوذ بشكل مطرد على حساب كل الدول العربية، بل تغلغلت فى داخل النظام العربي. فأصبح لإيران وكلاء وأصدقاء وقوات ومستشارون فى أكثر من بلد عربي، ولتركيا وجود عسكرى فى العراق وسوريا وليبيا وعلاقات اقتصادية وتجارية وثيقة مع عديد من البلاد العربية، وزادت علاقات إسرائيل الرسمية وغير الرسمية مع أطراف عربية عديدة.

أدت هذه التطورات إلى مراجعة فكرية لمفهوم النظام الإقليمى السائد فى المنطقة، فى ضوء تغير أنماط التحالفات بين الدول العربية ودول الجوار غير العربية، وتم التوصل إلى نتيجة مؤداها أنه رغم وجود النظام العربى كنسق مؤسسى مستقل، يضم عشرات المؤسسات العربية المشتركة على المستويين الحكومى وغير الحكومي، فإنه يصعب للغاية تحليل التفاعلات السياسية وأنماط العلاقات بينها دون الأخذ بعين الاعتبار تأثير ودور دول الجوار الجغرافي، ومن ثم صار الحديث عن التداخل والترابط بين النظامين «العربي» و«الشرق أوسطي». فى هذا السياق، هناك أيضًا تطورات أخرى فى بنية العلاقات الإقليمية وأطرافها، وأركز فى هذا المقال على اثنين مِنها: الأول، إعادة النظر فى تعريف مصادر قوة الدولة التى تُمكِنها من القيام بدور إقليمي، فساد الاعتقاد لفترة أن حجم الوفورات المالية والفوائض النقدية يمثل المصدر الرئيسى لقوة للدول، وما يرتبط بذلك من مؤشرات تتعلق بالاستثمارات الأجنبية وأنماط الاستهلاك ومعدل التنمية. وهذه بالطبع مؤشرات صحيحة، ولكن يجب أن يكملها عناصر أخرى، أهمها القدرة التنظيمية العسكرية للدولة، وهذا هو ما حققته تركيا وإيران وإسرائيل بسياسات وتحالفات مُختلفة. يرتبط بذلك قدرة الدول فى منطقتنا على ممارسة سيادتها، وحماية إقليمها واحتكارها لقرار الحرب والسلام وذلك فى ضوء ازدياد دور الفاعلين من غير الدول والذين يقومون بأنشطة تثير الالتباس وتدعو إلى التحليل والدراسة. ففى لبنان والعراق، يشارك حزب الله وجماعات الحشد الشعبى فى الحكم، بينما ينتهجان سلوكا سياسيا وعسكريا مستقلا عن الدولة. أضف إلى ذلك، أن بعض هذه الفواعل قد تقدم على تصرفات عشوائية أو غير محسوبة النتائج تؤدى إلى أزمات وحروب لم يتم التخطيط لها. وأيا كان الأمر، فإننا نحتاج إلى تفكير عميق بشأن التحولات فى أوضاع الدول وآفاقها، وتأثير الحروب الداخلية والأهلية التى اجتاحتها لحقبة من الزمان على مستقبل مؤسسات الدولة الوطنية، وتحليل أعمق لأسباب تراجع كفاءة أجهزة الدولة، وحدود قدرتها على إيجاد البيئة التى تطلق طاقات الناس والمجتمع، وتعظم من إمكاناتهم فى مجال الإبداع والابتكار وتمكن الدولة والمجتمع معا من المشاركة فى الثورة الصناعية الخامسة.

والثاني، التفكير فى حدود النظام الإقليمى والعلاقة بين النظم الإقليمية وتداخلها مع بعضها البعض، نتيجة سياسات الدول الكبرى وتطور العلاقات بينها مع الدول الإقليمية، بحيث تداخل النظام الإقليمى العربي/الشرق أوسطى مع نظم إقليمية أخرى. وعلى سبيل المثال، فقد ربطت الصين بين الشرق الأوسط وآسيا من خلال النفط والتجارة والاستثمار ومبادرة الحزام والطريق، والعلاقات الاستراتيجية مع إيران. ترتب على ذلك، تمدد حدود النظام الشرق أوسطي، ليتداخل مع النظم الإقليمية لشرق وجنوب آسيا، وظهر ذلك فى الوساطة التى قامت بها الصين فى مارس 2023 لعودة العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران.

يظهر هذا الترابط والتداخل أيضا فى كل من الممر الاقتصادى الصينى الباكستاني، والممر الاقتصادى الهندى الأوروبي. فبالنسبة للأول، فإنه يعتبر أيقونة مبادرة الحزام والطريق الذى تم توقيع الاتفاقية الخاصة به فى 2015، ويهدف إلى تحديث شبكة الطرق والسكك الحديدية وما يرتبط بها من محطات طاقة فى باكستان، مما يؤدى إلى تسهيل انتقال السلع والبضائع من الصين عبر باكستان إلى دول الشرق الأوسط وأوروبا. وبدأ العمل فيه على الفور واحتفل البلدان فى أغسطس 2023 ببدء المرحلة الثانية من إنشاء الممر. أما الممر الآخر، الذى أُعلِن عنه فى مؤتمر قمة العشرين فى سبتمبر 2023، فإنه يربط بين الهند والخليج العربى وأوروبا، ويمتد عبر بحر العرب من الهند إلى الإمارات فالسعودية والأردن وينتهى فى إسرائيل ومنها إلى الدول الأوروبية. ويتضمن المشروع إنشاء وتحديث خطوط السكك الحديدية، وربط الموانى البحرية، لتسهيل نقل البضائع. ويُلاحظ أن الممرين يشملان بناء كابلات فى أعماق البحر لنقل الطاقة والبيانات. هذه التطورات سوف تُعيد رسم هيكل وأطراف النِظام الإقليمى فى منطقتنا، وسوف تُعطى للدول الإقليمية غير العربية وللقوى الكُبرى دورًا أكبر. وهى تطورات تحتاج من الباحثين والمُمارسين إلى استشراف آفاقها وتأثيرها على مصالحنا الوطنية والقومية.

نقلا عن الأهرام