تهدد أنقرة بالتدخل العسكري في شمال شرق سوريا في خطوة تستهدف المسلحين الأكراد، واعتبر مجلس الأمن القومي التركي في اجتماعه الأخير، في 26 مايو الجاري، أن العمليات العسكرية ضرورية لأمن تركيا. كما أكد الرئيس التركي أردوغان في تصريحات له، أن الهدف الرئيسي لهذه العمليات هو إنشاء مناطق آمنة على طول الحدود الشمالية لسوريا، بعمق 30 كم، لإعادة اللاجئين السوريين إليها “بصورة طوعية”. ويبدو هذا هدفاً ملحاً للنظام التركي، خاصة بعد توظيف المعارضة ملف اللاجئين السوريين في الاقتراع المقرر له منتصف العام المقبل، وهو الأمر الذي يمثل تحدياً للرئيس أردوغان. كما تستهدف أنقرة أيضاً إبعاد “وحدات حماية الشعب” الكردية من على حدودها، حيث تعدها تركيا تهديداً لأمنها القومي، وتتهمها بالارتباط بـ”حزب العمال الكردستاني”.
مؤشرات التصعيد
يُمكن رصد أبرز المؤشرات الدالة على حرص تركيا على دعم حضورها العسكري في شمال شرق سوريا، وذلك من خلال ما يلي:
1- تعزيز الوجود العسكري قرب مواقع قسد: كشف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن تجهيز الجيش والاستخبارات العسكرية لعمل قتالي واسع النطاق في شمال سوريا بهدف إقامة منطقة آمنة على الحدود الجنوبية بعمق 30 كم. كما كشفت تقارير عن إعادة تموضع القوات التركية شمال سوريا، حيث بدأت في إعادة انتشارها؛ إذ كشف المرصد السوري في 27 مايو الجاري عن دخول رتل عسكري تركي مؤلف من 56 دبابة و11 راجمة صواريخ وعشرات الشاحنات العسكرية المحملة بالمعدات اللوجيستية، إلى الأراضي السورية، باتجاه منطقة منبج شمال حلب.
2- اجتماع مجلس الأمن القومي التركي: ترأس الرئيس التركي، في 26 مايو الجاري، اجتماع مجلس الأمن القومي، وأكد أن التدخل التركي يستهدف تحييد المناطق التي تعد مراكز انطلاق لهجمات الأكراد ضد بلاده. كما اعتبر المجلس -في بيان له- أن العمليات العسكرية الحالية والمستقبلية على طول الحدود الجنوبية للبلاد ضرورية لأمن تركيا، مشدداً على أنها لا تستهدف سيادة جيرانها.
3- تحشيد المليشيات المسلحة الموالية لتركيا: أفادت تقارير إعلامية، في 26 مايو الجاري، باستمرار عمليات التدريب التي تقوم بها المليشيات المسلحة الموالية لتركيا، وعلى رأسها “الجيش الوطني السوري”، حيث عرضت قناة “إيه خبر” لقطات لمقاتلين من الجيش الوطني السوري، وهم ينفذون تدريبات قتالية. كما واصلت فصائل “الجيش الوطني السوري” إرسال تعزيزات عسكرية إلى محاور مناطق عين العرب “كوباني” ومدينة منبج شمال حلب. وبحسب تصريحات القيادة العسكرية الميدانية للجيش الوطني السوري المدعوم تركياً، فإن جميع وحدات وفصائل الجيش الوطني رفعت جاهزيتها القتالية لإنشاء منطقة آمنة في مناطق شمال سوريا. كما كشفت تقارير، في 24 مايو الجاري، عن تحشيد جماعات إسلامية مسلحة بينها هيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً)، والتي تعتبر أكبر تنظيم مسلح موالٍ لتركيا.
4- مساومة الناتو بشأن عرقلة طلب انضمام فنلندا والسويد: لا ينفصل التهديد التركي بعملية عسكرية جديدة شمال سوريا عن رغبة أنقرة في توظيف قدرتها على عرقلة طلب فنلندا والسويد للانضمام إلى الحلف الأطلسي بعد تصاعد حدة الأزمة الأوكرانية؛ إذ تعتقد أنقرة أن الغرب لن يعارض مثل تلك العمليات في وقت يحتاج فيه إلى دعم أنقرة لمساعي الدولتين الانضمام لحلف شمال الأطلسي. ويشار إلى أن الرئيس التركي أكد في تصريحات له على أن بلاده لن توافق على عضويتهما حتى تتعامل هذه الدول بجدية مع مخاوف أنقرة الأمنية بشأن الجماعات الكردية المسلحة.
5- تحركات روسية مستمرة على الأرض: على خلفية التصريحات التركية بشن عملية عسكرية شمال سوريا، اتجهت موسكو منذ 27 مايو الجاري إلى تعزيز تواجدها العسكري في مدينة تل رفعت جنباً إلى جنب مع إرسال تعزيزات عسكرية ضخمة إلى قاعدتها في عين عيسى التي تبتعد عن معاقل “قوات سوريا الديمقراطية” 55 كم، ناهيك عن وصول تعزيزات عسكرية جديدة بينها طائرات مروحية وحربية إلى مطار مدينة القامشلي شمال شرقي سوريا الذي يضم إحدى أهم القواعد العسكرية الروسية.
التحرك الروسي السريع لم يقتصر على ما سبق، فقد حلقت الطائرات الروسية، في 24 مايو الجاري، في سماء مدينة كوباني على الحدود السورية التركية، في محاولة لإيصال رسالة إلى الجانب التركي بأن القوات الروسية موجودة في المنطقة بعد تواتر أنباء عن انسحاب القوات الروسية من سوريا.
6- رفض إيراني للتدخل العسكري التركي الجديد: أعلنت إيران رفضها أي تدخل عسكري تركي محتمل شمال سوريا. وفي تصريحات له، في 28 مايو الجاري، أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده، أن إيران تعارض أي نوع من الإجراءات العسكرية واستخدام القوة في أراضي الدول الأخرى بهدف فضّ النزاعات، لأنه يشكل انتهاكاً لوحدة الأراضي والسيادة الوطنية لتلك الدول، وسيؤدي إلى مزيد من التعقيد والتصعيد.
تأثيرات محتملة
ثمة العديد من التأثيرات المحتملة التي ربما تفرضها العملية العسكرية التركية المتوقعة شمال شرق سوريا في الأيام المقبلة، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1- عملية نزوح جديدة: صحيح أن انتزاع المزيد من معاقل الكرد شمال سوريا قد يساهم في عودة ملايين اللاجئين السوريين غير المرغوب فيهم في تركيا، إلا أن التدخل العسكري التركي من جديد قد يؤدي إلى عملية نزوح واسعة للمدنيين الأكراد، وربما يكون اتجاهها بمناطق قامشلي وعين العرب ورأس عيسى، وهو ما قد يزيد من الاضطرابات في الداخل السوري.
2- تصاعد التوتر مع الغرب: قد يسفر التدخل العسكري التركي شمال سوريا عن توتر متوقع مع القوى الغربية، وظهر ذلك في تحذير واشنطن للحكومة التركية من شنّ أيّ عملية عسكرية جديدة في شمال سوريا، باعتبار أن هذا التصعيد المحتمل قد يحمل مخاطر على القوات العسكرية الأمريكية المنتشرة في المنطقة. كما دعت إدارة بايدن أنقرة إلى الالتزام باتفاق 2019 الذي يمنع أنقرة من التوغل في المناطق الكردية، معتبرة أن الإبقاء على خطوط وقف إطلاق النار أمر حاسم لاستقرار سوريا.في المقابل، قد يزيد التدخل العسكري التركي شمال سوريا مجدداً من احتدام الخلاف مع شركاء أنقرة في حلف شمال الأطلسي، خاصةً بعد رفض تركيا انضمام فنلندا والسويد للحلف، وإصرارها على توظيف قضية الانضمام لتحقيق مصالح سياسية بعينها.
3- تغيير خارطة التحالفات الإقليمية والدولية: يُشكل الحضور العسكري التركي المتصاعد في شمال شرق سوريا رسالة واضحة من تركيا لكل من طهران وموسكو بأنها ستزاحم وبقوة حضورهما العسكري في سوريا، وأنها تعمل على توظيف الانشغال الروسي بالأزمة الأوكرانية، وانغماس إيران في المفاوضات النووية، وأزمتها الداخلية، لفرض إراداتها في الداخل السوري.الأرجح أن الرسالة التركية قد لا تروق لموسكو وطهران، وهو الأمر الذي ربما يدفع نحو إعادة خارطة التحالفات في الداخل السوري، بما يسمح بتعزيز التعاون الروسي الإيراني، وكذلك ترطيب التوتر بين موسكو وطهران من جهة، وواشنطن من جهة أخرى، خاصة أن الأخيرة تعارض أية تدخلات تركية شمال سوريا، وتصر على الاحتفاظ بعلاقاتها مع التيار الكردي. ويشار إلى أن واشنطن أعلنت، في 12 مايو الجاري، على لسان “فيكتوريا نولاند” القائمة بأعمال مساعدة وزير الخارجية الأمريكية، أن واشنطن تعتزم خلال الأيام القليلة المقبلة إصدار رخصة عامة لتسهيل نشاط الاستثمار الاقتصادي الخاص في شمال شرق سوريا (مناطق غير خاضعة لسيطرة النظام السوري) بهدف تنميتها، بعدما تعرضت لمخاطر جمة بفعل سيطرة تنظيم “داعش” عليها.
4- إضعاف جهود تسوية الأزمة السورية: ثمة جهود دولية وإقليمية متسارعة خلال الفترة الحالية لحل الأزمة السورية، في الصدارة منها انفتاح عدد من الدول العربية على النظام السوري، فضلاً عن جهود أوروبية لحشد الدعم الدولي لسوريا. الجهود الدولية والإقليمية تزامنت مع متغيرات محلية، منها إصدار الرئيس السوري بشار الأسد عفواً رئاسياً عن المعتقلين. غير أن التدخل التركي المحتمل قد يساهم في تجميد هذه الجهود، ويعرقل مبادرات تسوية الأزمة؛ إذ إن عسكرة الأزمة شمال سوريا ستُلقي بظلالها على العملية السياسية، وهو ما أشارت إليه الأطراف المنخرطة في الأزمة السورية.
5- تحقيق انتصار داخلي لنظام أردوغان: يوفر التدخل العسكري التركي في شمال سوريا بهدف إقامة مناطق آمنة لعودة اللاجئين فرصة للنظام التركي لتعويض تراجعه في الداخل، حيث ساهمت سياسة الباب المفتوح التي تبنتها أنقرة مع اللاجئين السوريين في إرهاق الاقتصاد التركي، وتفاقم الأوضاع المعيشية، وهو الأمر الذي أدى إلى خسارة حزب العدالة والتنمية جانباً واسعاً من قواعده الانتخابية لمصلحة المعارضة.ويعي الرئيس التركي أن إعادة عسكرة الأزمة مجدداً شمال سوريا، قد تجبر خصومه على الاصطفاف جانبه، وتعيد توجهات الشارع التركي نحو دعم الحزب الحاكم، وهو ما قد يصب في صالح “أردوغان” حال إجراء انتخابات مبكرة أو حتى إجرائها في موعدها منتصف 2023.
عسكرة متصاعدة
ختاماً، يمكن القول إن بدء تركيا في اتخاذ إجراءات على الأرض لعسكرة الأزمة مجدداً شمال سوريا بهدف إعادة اللاجئين السوريين، قد يسفر عن تصاعد حدة التوتر مع القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في المشهد السوري، لكنها ربما تسمح بتطوير التراجع الحادث في شعبية الرئيس التركي وحزبه قبل الاستحقاق الانتخابي الفارق منتصف العام المقبل، وهو ما يعني أنه حتى في حالة اتجاه أنقرة لتنفيذ تهديداتها بشن عملية واسعة ضد وحدات حماية الشعب السورية، فإنها تستهدف بالأساس هذه المرة اعتبارات داخلية.