اندلعت أزمة حادة في العلاقات الأمريكية- الفرنسية مؤخراً عقب إعلان استراليا، في 16 سبتمبر الجاري، فسخ عقد أبرمته مع فرنسا، في عام 2016، لشراء غواصات فرنسية، والاستعاضة عن ذلك بالتوقيع على اتفاق مع الولايات المتحدة للحصول على غواصات أخرى تعمل بالدفع النووي، وهو الأمر الذي جاء بعد يوم من الإعلان عن إطلاق شراكة دفاعية بين الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا تحت مسمى معاهدة “أوكوس”، تتضمن مشاركة التقنيات العسكرية المتقدمة مع الأخيرة.
وقد قوبلت هذه الخطوات بتصعيد حاد من جانب فرنسا، التي استدعت سفيريها لدى الولايات المتحدة واستراليا للتشاور، وأشار وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى أن “التخلي عن مشروع الغواصات الفرنسية والإعلان عن شراكة جديدة يشكلان سلوكاً غير مقبول بين الحلفاء والشركاء، وتؤثر عواقبه على مفهوم تحالفاتنا وشراكاتنا وأهمية منطقة المحيطين الهندي والهادئ لأوروبا”. وقد طرح هذا التوتر المتصاعد في العلاقات الأمريكية- الفرنسية تساؤلات حول إمكانية انعكاس ذلك على قضايا المنطقة بحيث يتزايد التباعد في المواقف الفرنسية والأمريكية تجاهها.
تداعيات ممكنة
لم تكن الأزمة الأخيرة بين فرنسا والولايات المتحدة، بعد إلغاء استراليا صفقة الغواصات الفرنسية، الأولى من نوعها خلال السنوات الأخيرة، حيث اعتادت باريس توجيه انتقادات لواشنطن، ولاسيما في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، علاوة على الحرص الفرنسي على تبني سياسات متمايزة عن واشنطن تجاه قضايا وملفات متنوعة وفي مقدمتها قضايا الشرق الأوسط. وفي هكذا سياق، يحتمل أن يكون لأزمة صفقة الغواصات الاسترالية تأثيرات رئيسية على قضايا المنطقة، يتمثل أبرزها فيما يلي:
1- تعزيز الدور الأوروبي في المنطقة: خلال السنوات الماضية، عملت فرنسا على صياغة موقف أوروبي منفصل عن الموقف الأمريكي تجاه قضايا المنطقة، بحيث يكون هذا الموقف ظهيراً للتحركات الفرنسية المكثفة في المنطقة. إذ يعتقد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن استعادة المكانة الفرنسية عالمياً يستند، في جانب كبير منه، إلى تولي فرنسا زمام مبادرة السياسة الأوروبية في الساحة الدولية، وخاصة في مناطق الأزمات على غرار منطقة الشرق الأوسط. فمن خلال الإطار الأوروبي الجماعي يمكن لفرنسا تعزيز حضورها الدولي، ولعل هذا ما يفسر تصريحات ماكرون المتكررة حول مفاهيم مثل السيادة الأوروبية والاستقلال الاستراتيجي في السياسة الخارجية الأوروبية بعيداً عن مواقف الأطراف الدولية الأخرى، حيث تستغل باريس في ذلك حالة الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط.
ويرجح أن تعيد أزمة صفقة الغواصات الاسترالية الأخيرة الاعتبار للتوجهات الفرنسية في هذا الصدد، ولاسيما مع التصريحات الصادرة من المسئولين الأوروبيين حول ضرورة استقلالية المواقف والسياسة الأوروبية. فعلى سبيل المثال، صرح منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، في 17 سبتمبر الجاري، أن الاتفاقية المبرمة بين استراليا والولايات المتحدة وبريطانيا بدون مشاورة الاتحاد الأوروبي “تتطلب الحاجة إلى وضع الحكم الذاتي الاستراتيجي الأوروبي على رأس جدول الأعمال”.
2- تعقيدات دولية محتملة في لبنان: صحيح أن الشهور الأخيرة كشفت عن تحركات مشتركة بين فرنسا والولايات المتحدة في الملف اللبناني وتقديم الطرفين دعم لرئيس الحكومة الجديدة نجيب ميقاتي، إلا أن هذه التحركات لا تنفي وجود خلافات، ربما تتزايد بعد أزمة صفقة الغواصات الاسترالية، بين واشنطن وباريس حول الملف اللبناني، وخاصة فيما يتعلق بالتعاطي مع حزب الله ومشاركته السياسية. ففيما تصنف واشنطن الحزب، بجناحيه العسكري والسياسي، كجماعة إرهابية، فإن باريس تبنت موقفاً مغايراً يقوم على تصنيف الجناح العسكري فقط للحزب كتنظيم إرهابي، وهو الموقف الذي يكتسب وجاهته من طبيعة الدور الفرنسي في لبنان، حيث تتعامل فرنسا مع الحزب كفاعل سياسي هام في المشهد، ويتعين التواصل والحوار معه، وبالتالي، فإنها ترى أن تصنيف الجناح السياسي للحزب، كتنظيم إرهابي، سيكون له تأثير سلبي على الأوضاع في لبنان والدور الفرنسي هناك.
3-تحركات موازية في الملف الإيراني: يحتمل أن تؤدي أزمة الغواصات الاسترالية إلى تكثيف التحركات الفرنسية، بعيداً عن واشنطن، في الملف النووي الإيراني، وخاصة أن فرنسا لم تتفق مع الولايات المتحدة في الانسحاب من الاتفاق النووي، عام 2018، لتظل مع بعض الدول الأوروبية متمسكة بالاتفاق، حيث اعتبرت أن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق أمر يؤثر بالسلب على الاستقرار الإقليمي والدولي، كما رأت أن سياسة الضغوط القصوى التي تبنتها واشنطن تجاه طهران لم تحقق الكثير من الفوائد، ومن ثم، ربما يكون من الأجدى، وفقاً لها، توظيف أدوات التفاوض والدبلوماسية والحوافز الاقتصادية کأنسب وأفضل الأدوات لتحقيق الهدف نفسه، الذي تسعى إليه واشنطن، وهو منع إيران من امتلاك القنبلة النووية.
وفي هذا الصدد، يبدو أن باريس حريصة على الانفتاح على طهران، ولعل هذا ما كشف عنه الاتصال الهاتفي الذي جرى، في 5 سبتمبر الجاري، بين الرئيسين الفرنسي ايمانويل ماكرون والإيراني إبراهيم رئيسي، وتضمن تأكيد الأول على تطوير وتعميق العلاقات بين إيران وفرنسا وضرورة إعادة النظر في العلاقة بين البلدين على المستويات المختلفة الاقتصادية والثقافية والإقليمية. كما تطرق الاتصال إلى الملف اللبناني ليشير الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى أن الشعب اللبناني يعاني اليوم من عقوبات اقتصادية يمكن لفرنسا أن تلعب دوراً في رفعها، معتبراً أن “جهود ومساعدة إيران وفرنسا وحزب الله لتشكيل حكومة قوية في لبنان يمكن أن تدعم ذلك”.
4- تعزيز موقع أنقرة لدى واشنطن: لا يمكن إغفال أن أزمة الغواصات الأخيرة بين الولايات المتحدة وفرنسا تخدم المصالح التركية، بشكل أو بآخر، فتصاعد حدة التوتر بين باريس وواشنطن يمكن أن يسمح لأنقرة بتعزيز حضورها لدى الأخيرة، وخاصة أنها تعمل في الآونة الأخيرة على تأكيد موقعها الاستراتيجي بالنسبة لواشنطن وحلف الناتو، وكذلك إصلاح العلاقات معهما بعد الخلافات العديدة التي شهدتها في السنوات الماضية، نتيجة لعدد من الملفات ربما أهمها السياسات التركية في منطقة شرق المتوسط، وكذلك سعى تركيا للحصول على نظام الصواريخ الروسيS-400 .
ويحتمل أيضاً، في حال عدم احتواء الأزمة المتصاعدة بين فرنسا والولايات المتحدة، أن تنظر واشنطن إلى أنقرة كطرف يمكن من خلاله موازنة أى نفوذ فرنسي مستقبلي في منطقة الشرق الأوسط والضغط على باريس في حال سعت إلى تبني سياسات في المنطقة منفصلة عن المصالح والتوجهات الأمريكية، وهو أمر قد توظفه أنقرة لدعم موقفها في صراعات المنطقة ولاسيما الصراعين السوري والليبي.
5- دعم الحضور العسكري الفرنسي بالمنطقة: من المحتمل أن تدفع الخلافات بين واشنطن وباريس، الأخيرة إلى دعم حضورها العسكري والأمني بالمنطقة، وربما تعمل أيضاً على صياغة مبادرات أوروبية جماعية لمساندة هذا التوجه. ويرتبط هذا الأمر بديناميات التحرك الفرنسي بالمنطقة في الآونة الأخيرة. فعلى سبيل المثال، شارك الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في قمة “التعاون والشراكة” التي عقدت بالعاصمة العراقية بغداد، في 28 أغسطس الفائت، وأكد حينها على أن فرنسا ستحافظ على وجودها في العراق لمحاربة الإرهاب بصرف النظر عن الخيارات التي تتخذها الولايات المتحدة.
خلاصة القول، إن الخلافات الأخيرة بين فرنسا والولايات المتحدة ستزيد من أزمة الثقة بين الطرفين، وستدفع باريس إلى محاولة الرد على ما تعتبره “إهانة” أمريكية لها. وفي هكذا سياق، قد تكون منطقة الشرق الأوسط ساحة مهمة لسياسة رد الفعل الفرنسي، ولكن سيظل ذلك مرتبطاً بعدد من العوامل في مقدمتها الحصول على تأييد أوروبي للتحركات الفرنسية بالمنطقة، وكذلك مواقف القوى الإقليمية الأخرى بالمنطقة، بالإضافة إلى تفاعل واشنطن مع الأزمة وما إذا كانت ستسارع لتهدئة الخلافات مع باريس أم ستتركها تتفاقم لتنتقل إلى صراع على النفوذ في مناطق مختلفة بما فيها الشرق الأوسط.