كثيرون يعتقدون أنَّ توقيع اتفاق نووي مع إيران سيؤدي إلى انفراج كبير في المنطقة، وإلى حل معظم أزماتها بدءاً بلبنان ومروراً بسوريا والعراق وانتهاء باليمن، وهذا التفاؤل يتجاهل سؤالاً مهماً: كيف ستُحل تلك الأزمات؟! هل سيعود لبنان إلى حضن الدولة؟ وهل سيقرر السوريون مستقبلهم بحرية؟ وهل يُسمح للعراق بأن يكون دولة قوية، وذات سيادة؟ وأخيراً هل سيقبل الحوثيون منطق الدولة؟ جواب هذه الأسئلة هو لا. والسبب أن الاتفاق النووي لم يأتِ إذعاناً من إيران بل نتيجة خيارين أمام الإدارة الأميركية: اتفاق نووي يضمن الحد الأدنى لوقف تصنيع إيران قنبلة نووية، أو لا اتفاق يسمح لإيران بأن تتابع عملية التسلح النووي، وأن تتحالف أكثر مع روسيا والصين لضرب المصالح الأميركية في المنطقة.
الإيرانيون من جهتهم أمامهم خياران: أن يقبلوا باتفاق نووي يضمن لهم الانفتاح على العالم اقتصادياً، وليس ثقافياً، ومع بقاء الخبرة النووية الإيرانية، أو أن يستمروا في رفض الاتفاق، والعيش في ضيق اقتصادي، والرضوخ المحتم لمتطلبات التحالف الروسي والصيني؛ بالطبع الخيار الأول أفضل لهم، ولذلك بدأوا بالتراجع التدريجي عن مطالب يراها الأميركيون صعبة القبول، ومنها رفع الحظر عن الحرس الثوري الإيراني، والتحقيق في وجود آثار نووية في ثلاثة مراكز أبحاث إيرانية، وعن المطالبة بتصديق الكونغرس الأميركي على الاتفاق واعتباره معاهدة ملزمة لا يمكن الخروج منها، كما حدث في أيام الرئيس الأميركي السابق ترمب.
هذا التراخي الإيراني تكمن وراءه قناعة بأهمية التوصل إلى اتفاق ملزم يضمن لإيران تحقيق الانفتاح الاقتصادي وتحسين معيشة الإيرانيين، وكذلك الاحتفاظ بالخبرات النووية التي أصبحت مصونة في عقول علمائها وخبرائها؛ والإيرانيون يدركون تماماً أن الإدارة الأميركية لن تسمح لهم، عندما يتسنى لها، بأن يسيطروا على المنطقة، ولكنها تدرك أن الأوراق الأميركية ضعيفة جداً، وأن الوضع الدولي لا يساعدها، وتدرك أيضاً أن لديها نفوذاً قوياً في المنطقة، وسيزداد أكثر بعد الانفتاح الاقتصادي وحصول إيران على الموارد المالية لدعم مؤيديها، وكل من يوافقها على خطها السياسي والديني في المنطقة وخارجها.
إذن الاتفاق النووي لن يكون خشبة خلاص لمنطقة الشرق الأوسط، بل سيكون مفتاحاً لصراع أكثر علانية، وأكثر شراسة، وامتداداً، وسيكون عنوانه: البقاء للأقوى. وعندما نتحدَّث عن الأقوى ندرك تماماً أن إيران لم تخض في تاريخها معركة واحدة ضد إسرائيل، بل كانت معاركها في بلدان مجاورة لإسرائيل، وكانت نتائجها الواضحة هي إضعاف هذه الدول، وتفتيت وحدة شعوبها، ودفعهم إلى منازعات دينية، وتدمير اقتصاد هذه الدول، ولُحمة جيوشها، ومستقبلها؛ وما تعدى دول الجوار عمدت الدول الأخرى، اضطراراً، إلى مهادنة إسرائيل، وعقد اتفاقيات معها، على اعتبار أنها قد تكون قوة موازنة تقف في وجه التمدد والتغول الإيراني؛ هكذا انقسمت المنطقة إلى شطرين: إيران وجماعتها من جهة، وإسرائيل ومن يراها مفيدة له من جهة أخرى؛ ويقف وراء كل هؤلاء دول كبرى لها مصالح في المنطقة. هذا المشهد سيجلب للمنطقة تحولات كبرى، لن تكون في صالح أهلها، ولن ينتهي هذا الصراع، لأنه في جوهره مفيد لبقاء هيمنة كل من إيران وإسرائيل على المنطقة.
لقد حددت إسرائيل خطوطها الحمر في سوريا ولبنان، وفي موضوع السلاح النووي الإيراني؛ في قضية السلاح النووي ضَمِنَ الاتفاق لإسرائيل، ولو لفترة وجيزة، توقف إيران عن تصنيع هذا السلاح، وهذا يعطيها فرصة، ووقتاً تحتاج إليه مع حلفائها في الغرب من أجل التفتيش عن حل دائم له، وكذلك يمنح الاتفاق إيران فرصة لأن تأخذ نفساً، والتفكير في شرعنة وجودها في المنطقة، من خلال الاعتراف المحلي والدولي بنفوذها؛ ولا مانع على الإطلاق عند إيران في أن تقدم مقابل شرعنة نفوذها حماية مصالح الغرب أو الشرق في المنطقة. أمَّا فيما يخص الخطوط الحمر فإنَّ إيران التزمت بها تماماً؛ لم تردّ على الضربات الإسرائيلية اليومية لها في سوريا رغم وقوع جنرالات إيرانيين ضحيتها، ولم تطلق من لبنان طلقة واحدة ضدها، بل على العكس بدأ لبنان يفاوضها على الحدود البحرية ويتسامح معها بآلاف الكيلومترات.
تبقى في المشهد حلقة مفقودة هي دول المنطقة من العرب الذين هم ضحايا هذا الواقع السياسي على أرضهم؛ فالدول العربية قد أصبح معظمها في حكم المتلاشي عملياً، ولم يبقَ في الواقع سوى مصر ودول الخليج، ودول شمال أفريقيا؛ وإذا ما دققنا نجد أن مصر لديها من المشاغل الداخلية ما يكفي، والخلافات بين دول شمال أفريقيا تتفاعل وتشتد في غياب أي مصالحة أو وساطة عربية؛ لم يبقَ إلا دول الخليج، التي هي ليست على اختلاف في توصيف إيران، ولكن تبقى كيفية مواجهة إيران؛ وريثما تتضح أكثر معالم هذه التكتلات فإن الخاسر الأكبر، الآن، إذا ما وقع الاتفاق النووي الإيراني، هي الولايات المتحدة الأميركية، لأنها أصلاً فقدت ثقة حلفائها، ولن تحظى بثقة إيران المطلقة، وهي أشد ما تكون الآن بحاجة إلى استعادة الثقة في خضمّ صراعها مع روسيا والصين.
بعد الاتفاق النووي سيوجد في المنطقة لاعبان اثنان هما: إسرائيل وإيران؛ إذا تخاصما، وتقاتلا سيحملان للمنطقة مزيداً من الخراب والتدمير، والتجويع، وإذا اتفقا على خطوط حمر سيُبقيان المنطقة في حالة اللا استقرار، والتشنج، والخلافات الدينية، مع ما يستتبع ذلك من تراجع في الاقتصاد والتنمية والأمل بالمستقبل. هذا التصور ليس ضرباً بالرمل بل واضح المعالم، ولمواجهته لا بد من تفعيل العمل العربي، ولو بالحد الأدنى، ولا يوجد أمل الآن إلا في مصر والمملكة، واتفاقهما على رؤية معينة ضروري جداً لإعادة مفهوم الردع العربي مع إيران، ومفهوم الموقف الدبلوماسي الموحد من إسرائيل.
هذا هو الأمل وما عداه شرق أوسط مُظلم.
نقلا عن الشرق الأوسط