منظمة الأمم المتحدة وليبيا رفيقان في رحلة التكوين منذ البداية.
ملف ليبيا المستعمرة الإيطالية السابقة، كان من القضايا المبكرة التي عُرضت على الجمعية العامة للأمم المتحدة، المنظمة التي أسسها المنتصرون في الحرب العالمية الثانية. بدأت مسيرة المنظمة الدولية الجديدة بإصدار قرارها رقم 289 – 4 في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 1949، الذي نصَّ على أن ليبيا ستكون دولة مستقلة وموحدة، وعينت مفوضاً لها يتولى العمل على تنفيذ القرار مع الجهات الليبية والدولية ذات العلاقة. أدريان بلت الدبلوماسي الهولندي الذي عينته الأمم المتحدة مفوضاً لها بليبيا، وثَّق تلك المسيرة في مذكراته الطويلة التي ترجمها الأستاذ الدكتور محمد زاهي المغيربي بعنوان «استقلال ليبيا والأمم المتحدة، حالة تفكيك ممنهج للاستعمار». أهمية هذه المذكرات أنها تعرض مرحلة تأسيسية لكيان جديد، بكل ما فيها من تفاعلات سياسية واجتماعية، بل ثقافية وعقلية، لا تزال تفعل فعلها في ليبيا إلى اليوم. المؤشر المهم أيضاً في هذه المذكرات هو المطارحات السياسية الدولية التي رافقت عملية إقامة الدولة الليبية وكثافة الاهتمام بتكوين وهوية الكيان الجديد.
بالإضافة إلى المفوض السامي أدريان بلت، تم تشكيل مجلس استشاري يساعد المفوض، ويتكون من ممثلين عن فرنسا وإيطاليا ومصر وباكستان وبريطانيا وأميركا، و3 ممثلين، واحد عن برقة، وواحد عن طرابلس، وواحد عن فزان. اختير علي الجربي عن برقة، ومصطفى ميزران عن طرابلس، وأحمد صوفو عن فزان، أعضاء في المجلس الاستشاري. في مذكرات المفوض السامي أدريان بلت، تبرز محطات محورية في مسيرة الأمم المتحدة على طريق تأسيس الدولة الليبية، أبرزها شكل الدولة المنشودة، مركّبة أم بسيطة، والعلاقة بين الأقاليم الثلاثة دستورياً، ورأس الدولة من يكون؟ اختار المفوض منهجاً وأسلوباً في العمل منذ البداية، يرتكزان على التحرك في مختلف أنحاء البلاد، والاستماع إلى الأعيان والسياسيين واللقاء بشرائح واسعة من عامة الناس في جميع المناطق.
الوقت الذي حددته الأمم المتحدة لقيام الدولة المستقلة، كان قصيراً وضاغطاً، والخلافات الداخلية والدولية حول كثير من التفاصيل شكّلت حواجز لها فعل لم يغب عن الحركة نحو الهدف. رغم ذلك تمكن المفوض السامي أدريان بلت من التقدم نحو الهدف الذي قررته الأمم المتحدة، وحددت وقتاً قصيراً لإنجازه. الخلاف لم يقتصر على أطراف الداخل الليبي، بل كان حاضراً بقوة في الخارج وداخل الأمم المتحدة ذاتها، وخاصة المجلس الاستشاري. الدول المنتصرة الأربع كانت لها أهدافها في ليبيا، وإيطاليا المهزومة لا ترغب في مغادرة ليبيا، فبعد فشل مشروع بيفن سفورزا الذي يعطيها جزءاً من الوصاية على إقليم طرابلس، عملت على تكريس حقوق دستورية لجاليتها في ليبيا، وخاصة بإقليم طرابلس، ولقت دعماً من دول أميركا اللاتينية بالأمم المتحدة. لم يكن أي من الدول الأربع المعنية معارضة من حيث المبدأ لاستقلال ليبيا، ولا أي من الأعضاء الستة في المجلس الاستشاري، وبالتالي لم يكن الاستقلال قضية خلافية على الإطلاق.
التعقيدات انبثقت من مصدرين آخرين، أحدهما كان شكل الدولة المستقبلية، خاصة أن مصالح المملكة المتحدة وفرنسا كانت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً ببرقة وفزان وليس بليبيا كلها. وانطبق هذا الاعتبار على إيطاليا إلى حد ما أيضاً، ولكنه بالكاد كان مهماً للولايات المتحدة الأميركية. يضيف أدريان بلت في مذكراته؛ كان إقليم البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط هما خلفية المسرح الذي حدثت عليه دراما تحول ليبيا، بعداوتها الإنجليزية – الفرنسية – العربية إلى حد كبير، أكثر من كون الحرب الباردة على مستوى العالم هي الخلفية، على الرغم من أن تداعيات الصراع الأكبر لم تبدأ خارج مرمى سمع الفاعلين الأساسيين، بقدر ما كانوا متحدين ضمن معاهدة شمال الأطلسي.
تم التحرك نحو الخطوات التأسيسية، وبدأ الحديث عن اللجنة التحضيرية التي تغير اسمها إلى لجنة الواحد والعشرين، على أساس 7 أعضاء من كل إقليم. في برقة وفزان كان الاختيار أسهل بكثير مما هو في إقليم طرابلس. في برقة هناك إدريس السنوسي الذي أصبح أميراً للإقليم بعد نيله الاستقلال الذاتي، وله القدرة على اتخاذ القرار، وكذلك الحال في إقليم فزان الذي يترأسه أحمد سيف النصر. المشكلة في إقليم طرابلس التي تعددت بها الأحزاب والرؤوس، بالإضافة إلى تشبث إيطاليا بدور جاليتها في اللجنة. في النهاية، تم الاتفاق على تشكيل لجنة الواحد والعشرين، وكانت خطوة عملية في طريق إقامة الدولة. المساواة بين الأقاليم الثلاثة في اللجنة أثارها البعض في إقليم طرابلس، ولكن تم تجاوزها، غير أن الخلافات حول شكل الدولة وقيادتها ظلت متحركة. إقليما برقة وفزان كانا يتجهان إلى النظام الفيدرالي، وللسنوسية فيهما وجود واسع وعميق؛ ما دفع بهما إلى تزكية أمير برقة إدريس السنوسي على رأس الدولة الاتحادية المنتظرة، التي يجري العمل على إقامتها. في إقليم طرابلس كان بشير السعداوي زعيم حزب المؤتمر هو السياسي البارز، ولكنه لم يكن الشخصية القيادية الوحيدة التي لها الكلمة الأخيرة في الإقليم، وكانت له علاقات وتواصل قديم ومتجدد مع الأمير إدريس السنوسي. أما لجنة الستين التي أُنيط بها كتابة دستور الدولة، فقد قام مفتي طرابلس بتسمية أعضاء الإقليم العشرين، في حين قام الأمير إدريس السنوسي بتعيين أعضاء برقة، وأحمد سيف النصر بتسمية أعضاء فزان.
عقدت اللجنة اجتماعات متواصلة، صاغت في نهايتها الدستور الذي أقرّ النظام الاتحادي للدولة، وبايعت إدريس السنوسي ملكاً على المملكة الليبية المتحدة. مسيرة سنوات كتبها أدريان بلت في مذكراته الطويلة، التي سطّرت دور الأمم المتحدة في تأسيس الكيان الليبي، لكن الأمم المتحدة لم تغب عن ليبيا منذ ولادتها وعبر سنواتها السبعين، وإلى اليوم.
نقلا عن جريدة الشرق الاوسط