الأسد فى بكين.. رسائل إستراتيجية – الحائط العربي
الأسد فى بكين.. رسائل إستراتيجية

الأسد فى بكين.. رسائل إستراتيجية



عمليات بناء التحالفات والتحالفات المضادة أصبحت سمة غالبة فى عالم اليوم. خطوة هنا وأخرى هناك. تحرك أمريكى يقابله تحرك صينى أو روسى، مشتركا أو منفردا، ولكنه مضاد لتحالفات الولايات المتحدة، التى باتت متعددة فى آسيا تحديدا، وهدفها الرئيسى محاصرة النفوذ الصينى المتصاعد اقتصاديا وسياسيا. الصين بدورها باتت تتحرك بقدر من الجرأة المحسوبة ليست معتادة من قبل، تجاه ما يوصف بمناطق النفوذ الأمريكية التقليدية. والأبرز هنا هو الشرق الأوسط، وتحديدا منطقة الخليج وامتداداتها الجيوسياسية التى تمتد إلى إيران والعراق وسوريا والأردن ولبنان.

ما يلفت النظر هنا أن الامتدادات الجيوسياسية لإقليم الخليج يجمع بين بلدين وهما إيران وسوريا، وكلاهما واقع تحت عقوبات غربية وأمريكية بهدف عزلهما عن العالم وإخضاعهما للمطالب الأمريكية تحديدا، فضلا عن تحييد أى دور لهما قد يمثل تحديا أو تهديدا لإسرائيل، الحليف المُقرب والمُقدر أمريكيا وغربيا على النحو المعروف. كما يجمع أيضا بين ثلاثة بلدان أخرى وهى العراق والأردن ولبنان لهم صلات تجمع بين العادية والقوية مع الولايات المتحدة، ولكنها لا تخلو من مشكلات وإحباطات سياسية واقتصادية كبرى. حين تتحرك الصين فى هذا المجال الجيوسياسى بتعقيداته الظاهرة والخفية، بجرأة حذرة، تستند إلى أهداف آنية وبعيدة المدى فى آن واحد، ما يضع المنطقة فى قلب عملية التنافس الساخن بين كبار النظام الدولى، ذات الصلة بعملية تغيير قواعد الهيمنة وقيادة العالم، من أحادية مرتبكة إلى تعددية نشطة تتمسك بها الصين إلى جانب روسيا على نحو غير قابل التشكيك. زيارة الرئيس الأسد – وبلاده واقعة تحت ضغوط أمريكية يمثلها قانون قيصر سيئ السمعة ووجود عسكرى غير قانونى، وعُزلة أوروبية ممزوجة بعقوبات أحادية وجماعية – إلى بكين بدعوة من الرئيس الصينى شى جين بينج، تمثل نموذجا للزيارة ذات المساريْن؛ أحدهما مسار صينى تجاه سوريا، يقابلها مسار سورى نحو الصين. وبينما تُثبت الصين أسلوبها السياسى الخارجى القائم على اكتساب وتدعيم مواقع نفوذ سياسى واقتصادى يعزز رؤيتها للعالم المتعدد الخالى من التدخلات فى شئون الآخر الداخلية، ترنو دمشق إلى توسيع فرص فك العزلة، وجذب استثمارات لإعادة البناء، والمساعدة فى تثبيت النظام وتوسيع مساحات سيطرته على الأراضى السورية التى ما زالت بعيدة عن سيادته، ومنها ما هو خاضع مباشرة لوجود عسكرى أمريكى وتركى بلا سند قانونى. ومن المهم أن نلاحظ قول الرئيس الصينى إن هدف زيارة الأسد هو إقامة شراكة استراتيجية، سيعلن عنها. وحسب مفاهيم بكين فإن الشراكة الاستراتيجية تعنى تعاونا مكثفا ومتعدد المجالات وبعيد الأمد، يقوم على تبادل الخبرات الصينية الاقتصادية والحزبية والتقنية والعسكرية، مع الطرف الآخر الذى سيحصل على منافع متعددة، ويسمح لوجود صينى ذى أبعاد استراتيجية كبرى. ومشروع الحزام والطريق الصينى يعد إحدى أدوات هذه الشراكة الاستراتيجية بين الصين وحلفاء وأصدقاء عديدين، بدوره يضم سوريا التى بحاجة إلى من يُعين فى إعادة البناء والإعمار بأى قدر كان.

تثبيت مشروع الحزام والطريق كألية تنموية وتجارية صينية تجاه العالم بأسره، يواجه مناكفات سياسية ومشروعات بديلة، آخرها ما أعُلن عنه فى قمة العشرين الاخيرة للاقتصادات الكبرى، وبات يعرف بمشروع بايدن، الذى يستهدف حسب المُعلن ربط الهند تجاريا بأوروبا بحريا وبريا عبر الإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل ثم إيطاليا وألمانيا.

ربط الهند بأوروبا كهدف أمريكى بعيد المدى ذى صلة مباشرة بتغيير منظومة سلاسل الإمداد العالمية التى تلعب فيها الصين القدر الأكبر، وبحيث تحل الهند تدريجيا محل الصين فى تلك السلاسل، ما يؤثر على اقتصادها من جانب، كما يُفشل مشروعها المعروف بالحزام والطريق، ويرفع قدرة الهند على منافستها من جانب آخر. بهذا المعنى فممر بايدن هو جزء من خطة أمريكية لمحاصرة الصين اقتصاديا على المدى المتوسط، بفرض أن إنشاءات الممر قد تستغرق ما بين خمس إلى سبع سنوات، يتطور فيها الاقتصاد الهندى على نحو يهدد مكانة الصين الاقتصادية. معروف أن سوريا كما إيران يؤيدان خطة الحزام والطريق، ويعملان على الارتباط بها، ما ييسر انتقال جزء من البضائع الصينية عبرهما الى تركيا ومن ثم إلى أوروبا. مع الاستفادة أيضا من البنية التحتية التى سوف تلتزم بها بكين فى هذين البلدين من طرق وموانئ ومحطات كهرباء وقدرات حديثة فى مجال الاتصالات والتصنيع، وهى احتياجات رئيسية لدى سوريا وبقدر أقل لإيران. هذا الترابط الثلاثى لا ينفصل بدوره عن مساعى بناء التحالفات الصينية الموسعة، ولما كانت علاقات سوريا وإيران قوية ومتنامية مع روسيا، والتى بدورها تسعى لتمتين علاقتها الاستراتيجية مع الصين، تتضح أكثر الدلالات الإستراتيجية لزيارة الرئيس الأسد لبكين، ورسائلها الكبرى لواشنطن على وجه التحديد. قد تتحفظ الصين فى بعض خطواتها تجاه سوريا على المدى المتوسط، مراعاة لقانون قيصر الأمريكى وقيوده التى تفرضها واشنطن على من يتعاملون مع دمشق، لكنها ستبحث عن ما يمكن وصفه بالثغرات جنبا إلى جنب المحفزات السورية وهى كثيرة، إلى أن تصبح عقوبات قيصر أقل تأثيرا من العوائد الاستراتيجية التى ستتمكن منها بكين. إجمالا ثمة عملية كبرى بدأت ولن تتوقف.

نقلاً عن الاهرام