معضلة البجا:
الأسباب المتعددة لأزمة إغلاق شرق السودان

معضلة البجا:

الأسباب المتعددة لأزمة إغلاق شرق السودان



أعلن المجلس الأعلى لنظارات البجا في الثامن عشر من سبتمبر الجاري إغلاق الطرق المؤدية لإقليم شرق السودان بولاياته الثلاث البحر الأحمر وكسلا والقضارف بجانب وقف الملاحة البحرية وإغلاق مطار بورتسودان. حيث قامت العناصر التابعة لمجلس نظارات البجا بقطع الطرق في خمس نقاط متفرقة، فضلاً عن قيامها بإغلاق الميناء ببورتسودان ووقف الملاحة البحرية، وقطع الحركة بمطار بورتسودان.

وقد أثار إعلان إغلاق شرق السودان سلسلة من ردود الأفعال المناوئة، فمن جانبه أعلن المجلس الأعلى للإدارة الأهلية بشرق السودان المناوئ للمجلس الأعلى لنظارات البجا رفضه القاطع لإغلاق الطرق بشرق السودان، معتبراً إغلاق الطرق وتعطيل المؤسسات الحيوية يعتبر جريمة بحق الشعب السوداني مشيراً إلى أن الهدف من ذلك هو النيل من الثورة وخدمة عودة الشمولية والاستبداد. كما حمل مجلس الإدارة الأهلية بشرق السودان الحكومة الانتقالية مسؤولية الفوضى والانفلات الأمني باعتبارهما نتاجاً لضعف الحكومة ورضوخها للابتزاز. كما شدد مجلس الإدارة الأهلية على أهمية التعامل بقوة القانون لوقف تعطيل المؤسسات الحيوية، رافضاً أي توجه للتفاوض مع المسؤولين عن قطع الطرق. وقد أمهل المجلس الأعلى للإدارة الأهلية بشرق السودان الحكومة السودانية مهلة تمتد ليومين سيقوم بعدها بفتح الطرق والمرافق في الإقليم.

ونظراً لما تحمله الأزمة من بعد اقتصادي بالغ الخطورة، أعربت العديد من الأطراف عن تضررها الكبير من قرار إغلاق شرق السودان. ففي الوقت الذي تعاني فيه السودان من مشكلات اقتصادية متعددة أبرزها التضخم، وارتفاع أسعار السلع الأساسية، يمكن أن يؤدي غلق الطرق الرابطة بين شرق السودان ومختلف أقاليم البلاد إلى أزمة في العديد من السلع الأساسية. فوفق اتحاد غرف النقل السودانية يتراوح عدد الشاحنات التي تتحرك من شرق السودان إلى مختلف أقاليم السودان بين 300 و400 شاحنة يومياً الأمر الذي يفاقم من تداعيات الأزمة، خاصة مع اقتراب موعد وصول الدفعة الثالثة من المعونة الغذائية الأمريكية وغيرها من شحنات القمح المستوردة من الخارج والتي يتعين إيداعها في الصوامع في أسرع وقفت لتجنب تعرضها للتلف.

مسببات عديدة

وقد جاءت أزمة إغلاق إقليم شرق السودان نتيجة لجملة من المسببات ذات الطبيعة الداخلية والخارجية والتي تضمنت:

1- الخلافات داخل مؤسسات الحكم الانتقالي: أعقب إصدار ناظر الهدندوة محمد الأمين ترك عٌقد اجتماع المجلس الأعلى للسلام لمناقشة الحلول الواجب اتخاذها لتجنب الأزمة المترتبة على غلق الطرق في شرق السودان وعزل ميناءي بورتسودان وسواكن الرئيسيين عن باقي الأقاليم السودانية. لكن جلسة المجلس الأعلى للسلام شهدت مواجهات بين أعضاء المجلس المدنيين والعسكريين، حيث أصر المنتمين للمكونات المدنية على التمسك بحق المواطنين في التظاهر السلمي، بينما رأت العناصر العسكرية أهمية صدور تفويض كامل لها باتخاذ كل ما يلزم من إجراءات لتفريق أي تجمعات تقطع الطرق الرئيسية في الإقليم.

2- تعثر مسار شرق السودان للسلام: بعد أقل من عام على توقيع اتفاق جوبا للسلام في أكتوبر من عام 2020 لا تزال قضايا الهامش تشكل التحدي الأبرز أمام الدولة السودانية، إذ لا يظل فصيلي عبد الواحد نور وعبد العزيز الحلو خارج نطاق التوافق، بينما عجزت مسار الشرق عن استيعاب مطالب الجماعات المختلفة. وفي كلمته المسجلة التي سبقت قطع الطرق في شرق السودان أعلن ناظر الهدندوة أنه بصدد اتخاذ إجراءات استثنائية أجبره عليها تعثر الوصول مع الحكومة الانتقالية لاتفاق في إطار مسار شرق السودان، خاصة مع تصاعد الخلاف بشأن تقاسم الثروة على وجه الخصوص.

 3- العجز عن احتواء الأزمة في العام الماضي: لم يكن قطع الطرق في شرق السودان في سبتمبر 2021 سابقة أولى خلال المرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد منذ أكثر من عامين. فبين السابع والعشرين والتاسع والعشرين من سبتمبر 2020 نظم المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة والقوى السياسية والمدنية مؤتمراً للسلام والتنمية بمحلية سنكات بولاية البحر الأحمر حمل شعار “تثبيت الحقوق التاريخية للبجا، وقد رفض مسار الشرق في اتفاق السلام في السودان باعتباره غير شامل للقوى السياسية والاجتماعية الرئيسية في شرق السودان، مطالباً بالحكم الذاتي لشرق السودان على حدود عام 1956، مع تكوين البرلمان الأهلي للبجا بشرق السودان، ليمثل مطالب الإقليم.  وفي الثالث من أكتوبر 2020 أعلن مقرر المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة عبد الله أوبشار بأن البجا قامت بإغلاق الطريق القومي لأجل عير مسمى. وفي الخامس من أكتوبر قام محتجون بإغلاق جزئي لميناء بورتسودان الذي يعد المنفذ البحري الوحيد الذي يربط السودان بالعالم، وذلك بعد إغلاق بعض بوابات الميناء الجنوبي قبل أن يعاد فتح الميناء بعد أيام من التوتر.

 4- الدور السلبي لعناصر نظام الإنقاذ: في جولات التصعيد بين المجلس الأعلى لنظار البجا وبين الحكومة الانتقالية السودانية كانت العناصر التابعة لنظام الإنقاذ حاضرة بقوة في المشهد. فقد شهد يناير 2021 واقعة اقتحام حشود تابعة لمحمد الأمين ترك لمقر لجنة إزالة التمكين في مدينة بورتسودان لمناصرة رئيس الوزراء الأخير في عهد الرئيس عمر البشير محمد الطاهر إيلا بعد دعوة مباشرة من ترك لمناصرته على أساس الانتماء للقبيلة الواحدة. وتشكل التوترات في شرق السودان بيئة خصبة لنشاط العناصر التابعة لنظام الإنقاذ على نحو يجعلها واحدة من أكثر مناطق السودان قابلية للانتكاس.

5- التداعيات الممتدة للصراع في تيجراي: حذرت العديد من الجهات في دول القرن الأفريقي من أن استمرار الصراع في إقليم تيجراي شمال إثيوبيا من شأنه أن يمتد ليشمل الإقليم بأسره، وذلك بآليات متعددة من بينها أثر المحاكاة. فقطع الطريق الرابط بين الأقاليم الداخلية والموانئ على السواحل الشرقية سبق أن شهدته إثيوبيا قبل تكراره في السودان بأسابيع قليلة حين قام محتجون من أبناء الإقليم الصومالي الواقع شرق إثيوبي بقطع الطريق البري وخط السكك الحديدة المؤدي للعاصمة أديس أبابا احتجاجاً على استهداف أبناء الجماعة بأعمال عنف على يد العفر في المنطقة المتنازع عليها بين الإقليميين. كما خلق الصراع في تيجراي بيئة إقليمية عالية التوتر خاصة مع اصطفاف إريتريا بجانب الحكومة الفدرالية الإثيوبية، وتصاعد الاشتباكات المسلحة في منطقة الفشقة الحدودية بين السودان وإثيوبيا. كما شكل هذا الصراع فرصة لنشاط العديد من التنظيمات المسلحة مثل التنظيمات العفرية التي نفذت عمليتين كبيرتين في مدينة تجورة في جيبوتي خلال العام الجاري.

6- تصاعد التنافس الدولي على شرق السودان: لا يمكن تجاهل دخول منطقة شرق السودان على خريطة التنافس الدولي. ففي الشهور الأخيرة لحكمه، أجرى الرئيس السابق عمر البشير ترتيبات لحضور عسكرية روسي في ميناء بورتسودان وتركي في شبه جزيرة سواكن، وهو الوضع الذي تغير جذرياً بمجرد سقوط البشير وعودة العلاقات السودانية الأمريكية للنشاط بعد عقود من القطيعة. على هذا الأساس نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في إعادة ضبط توجهات الحكومة الانتقالية السودانية بشأن التواجد العسكري الأجنبي على السواحل السودانية المطلة على البحر الأحمر. وترفع المنافسة الدولية من هشاشة شرق السودان في ظل ضعف الحكومة السودانية ووجود مصالح لأطراف دولية عدة في تأجيج التوترات بصورة مستمرة في هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية.

أزمة هيكلية

وختاماً، تقدم أزمة إغلاق شرق السودان المتكررة عاماً بعد آخر مؤشراً على العديد من المشكلات الهيكلية التي تعاني منها السودان خلال المرحلة الانتقالية والتي تشمل الخلافات العميقة بين شركاء الحكم الانتقالي، وتداعيات عجز اتفاق السلام عن شمول كافة الأطراف المعنية وتركيزه على الفصائل المسلحة المنضوية تحت راية الجبهة الثورية، فضلاً عن استمرار معضلة العلاقة بين المركز والهامش نتيجة استمرار المعالجات السطحية. وبينما ترجح العديد من العوامل الظرفية احتواء الأزمة القائمة تدريجياً مثلما تم في أزمة العام الماضي، تظل الأوضاع في شرق السودان قابلة للتفجر على نحو قد يهدد وحدة الدولة السودانية بصورة تفوق ذلك التهديد القائم في دارفور وجنوب كردفان.