إذا كان للنزاعات المسلحة، بمختلف مواقعها الجغرافية، انعكاسات وارتدادات إقليمية، من خلال تأثيراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، المباشرة وغير المباشرة، فإنها في حال السودان، تنطوي على عواقب وتداعيات أكثر منها تأثيرات. بل إنّ الأمثلة على وجود ما يترتب على النزاع المسلح “السوداني – السوداني” حاضرة من التجارب القريبة، حتى إنها تخطت مسارات مُحددة يؤثر من خلالها النزاع الحالي في دول الجوار.
وبحكم تعرض السودان الطويل للحرب الأهلية، في جنوبه وغربه، فإنه من السهولة افتراض وجود تأثيرات فعلية للصراع الحالي، والأزمة السودانية عموماً، حتى لو جاءت هذه المرة مُبرأة من الغموض الذي اكتنف علاقات السودان مع دول الجوار، خلال نزاعاته وصراعاته الداخلية السابقة. إذ إنّ الصراع السوداني قد أضاف بُعداً جديداً للأزمة الداخلية، السياسية والاقتصادية والأمنية، وأصبح مُكملاً لدائرة الصراع في منطقة القرن الأفريقي، وهو -في الوقت نفسه- ليس بعيداً عن النزاعات في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل، التي امتدت بدورها من مالي إلى دول الجوار، خصوصاً النيجر وبوركينافاسو، فضلاً عن الجابون.
وبالتالي، تتبدّى تداعيات الأزمة السودانية على أكثر من صعيد، سواء على الصعيد الداخلي أو الإقليمي وامتداداته على الساحة الدولية.
فمن اللافت أن السودان بموقعه الجيوسياسي المتميز، يرتبط بجوار إقليمي مُعقد، يجمعه بإثيوبيا وإريتريا شرقاً، بما يضعه في دائرة التفاعلات الخاصة بمنطقة القرن الأفريقي، هذا بجانب جواره الغربي مع كل من ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى، وهو الجوار الذي يُعزز من مكانة السودان كـ”مؤثر” مهم في إقليم الساحل الأفريقي. هذا فضلاً عن جواره الشمالي حيث الدولة المركزية مصر، بما يضعه في دائرة التفاعلات الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط وأبعادها الإقليمية والدولية، ثم جواره الجنوبي المتمثل في جنوب السودان، الذي يربط السودان بتفاعلات منطقتي شرق أفريقيا والبحيرات العظمى.
ومن جانب آخر، فإن السودان يتأثر بنمط عدم الاستقرار الإقليمي، وكافة ارتدادات عدم الاستقرار هذا على الداخل السوداني، فهناك قضايا اللجوء والتأثير في الاقتصاد والتجارة والأمن الغذائي والإنفاق العسكري، وغيرها، مما ينعكس بشكل سلبي على تنمية البلاد المتعثرة أصلاً. هذا ناهيك عن قضايا النزوح واللجوء إلى دول الجوار، الناتجة عن الصراع العسكري المستمر منذ ما يزيد على خمسة أشهر.
في هذا الإطار، يُمكن توقع أن تُفرز الأزمة السودانية صياغة “عقد اجتماعي جديد”، تزداد فيه النزاعات والصراعات الإثنية، بل إن بعض الإثنيات في دول الجوار الجغرافي للسودان، سوف تستفيد من هذا الوضع، خاصة تلك الإثنيات ذات التداخلات العرقية في مناطق التماس الحدودية مع السودان، وهو ما يمكن أن يُشكل تهديداً كبيراً لاستقرار دول الجوار. فالقبائل ذات الأصول الأفريقية، في غرب السودان، وخصوصاً في المناطق الملتهبة مثل دارفور، تجد فرصتها في الالتحام بقبائل المنطقة، مستفيدة في ذلك من الهشاشة الأمنية المتزايدة، وكذلك ستفعل القبائل في شرق السودان، خاصة تلك المتداخلة مع القبائل الإثيوبية، مما يجعل مناطق النزاعات والصراعات المتجددة، في منطقة الفشقة وغيرها، بيئة خصبة لتوالد مجتمع بإمكانه فرض واقع جديد على السودان.
مثل هذا التأثير يعتمد على مجموعة من العوامل، لعل من أهمها: مدى استمرارية الأزمة السودانية بوضعها الحالي، نتيجة استمرار الصراع المسلح، ومدى تأثير حجم الحدود الطويلة الممتدة على طول غرب السودان وشرقه. أضف إلى ذلك، نتيجة الصراع المسلح الحالي، سواء بانتهائه أم باستمرار تداعياته، وتوسع رقعته التي ربما تمتد إلى إقليم دارفور غرباً وإثيوبيا شرقاً ودولة جنوب السودان جنوباً، ناهيك عن إمكانية دخول الحركات المسلحة السودانية على خط الصراع المسلح الحالي، وانحيازها إلى أحد طرفي الصراع.
ومن هنا، تتبدى تداعيات الأزمة السودانية، خاصة في شقها الأمني، على ثلاثة أبعاد رئيسية: الأول، يتمثل في مدى قدرة الجيش السوداني على حسم الفوضى التي يُمكن أن تنشأ على الحدود، خاصة في المناطق الملتهبة غرباً وشرقاً. والثاني، يتعلق بوضعية الحركة بين الحدود، وحالات اللجوء إلى خارج السودان، وبروز تعقيدات أخرى نتيجة هذه الحركة، مثل: التعديات على الأراضي، وانتشار الجرائم، والإرهاب، وتهريب البشر، وتجارة المخدرات والأسلحة. ثم البعد الثالث، الذي يختص بإشكالية اعتماد المنظومة السياسية السودانية، على المحاور الإقليمية في حل مشكلاتها، إذ إن كل الحلول للأزمات السابقة، أثناء الحرب الأهلية في جنوب السودان، كانت بالارتكان إلى الحل السهل، أي إجراء استفتاء على الانفصال، ثم تنفيذه في حيز زمني ضيق.
وبناءً على عوامل الخطورة هذه، فإن كارثية الأزمة السودانية تكمن في تركيبتها وأسبابها، بل وفي الثغرات التي تتمدد من خلالها، خاصة إذا لاحظنا أن النقطة الجوهرية في هذه الأزمة أن تداعياتها يمكن أن تمتد شرارتها وتفاعلاتها إلى دول الجوار الإقليمي، وفي الوقت نفسه يمكن لهذه التفاعلات أن ترتد إلى السودان مرة أخرى، بما تؤدي إليه من استجابات سياسية قد تكون لها آثار طويلة الأمد.
إلا أن الملاحظة الواجب تثبيتها هنا أن هذه التداعيات ليست بالضرورة أن تتمثل في نشوب صراع مُسلح في دول الجوار السوداني، وإنما تتجلى في العبء الاقتصادي الذي يتحمله الإقليم بأكمله نتيجة اللجوء عبر الحدود المشتركة، بين السودان ودول جواره الإقليمي، وهو ما يتبدى بوضوح حالياً. فضلاً عن الأنشطة “غير القانونية” الأخرى التي بدأت بوادرها في الظهور مؤخراً.
ملاحظة أخرى في السياق ذاته، تتمحور حول المفارقة اللافتة في الأزمة السودانية، فرغم أن هذه الأزمة هي الأعقد والأكثر حدة، منذ سقوط الرئيس السوداني السابق عمر البشير، في أبريل 2019؛ إلا أنها شهدت أدنى مستويات التدخل من جانب القوى الإقليمية، من دول الجوار السوداني، بما يُشير إلى أن ذلك لا يعكس عزوفاً من جانب تلك القوى، بقدر ما يؤكد مستوى الخطورة المرتفع للأزمة الحالية.
وبكلمة، فإن مستوى الخطورة للأزمة السودانية يحمل فرصاً حقيقية لإمكانية إدخال السودان في حالة من الاحتراب الداخلي الشامل، بل وإمكانية تحول الأزمة إلى صراع إقليمي متعدد الأطراف.
وفيما يلي قائمة بأبرز الموضوعات المنشورة على موقع الحائط العربي:
1- صراع السلطة: لماذا تزايدت المواجهات بين الجيش والدعم السريع في السودان؟
2- مواقف متباينة: لماذا تزايد التصعيد بين رأسي المؤسسة العسكرية في السودان؟
3- الإشكاليات السبع: عقبات دمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني.
4- الإشكاليات الست: ما هي عقبات دمج الحركات المسلحة في الجيش السوداني؟
5- القضايا الخمس: عقبات التوصل إلى اتفاق نهائي لتسوية الأزمة السياسية في السودان.
6- ملفّات ضاغطة: عقبات التوصّل إلى اتفاق سياسي نهائي في السودان.
7- خيارات متساوية: فرص وعقبات تنفيذ تسوية الأزمة السياسية في السودان.
8- كيانات “الظل”: احتمالات عودة التنظيمات العسكرية الموازية في السودان.
9- صراع الحواكير: لماذا تجددت الاشتباكات القبلية في السودان؟
10- محفزات متجددة: لماذا تصاعدت أزمة الشرق في السودان؟
11- مغزى التوقيت: لماذا انتقلت الحرب في السودان إلى دارفور؟
12- حلقة خطرة: مخاطر تمدد الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع إلى دارفور.
13- تأزّم تنموي: لماذا تصاعدت احتمالات انفصال بعض الولايات السودانية؟
14- عودة الإسلاميين: دلالات الإفراج عن رموز نظام الإنقاذ في السودان.
15- عودة تدريجية: الإفراج عن قيادات حزب المؤتمر الوطني “المنحل” في السودان.
16- مؤشرات متعاكسة:ما احتمالات تدخل الحركات المسلحة في الصراع السوداني؟
17- مواقف متباينة: ردود الأفعال الخارجية تجاه المبادرة الأممية لحل الأزمة السياسية بالسودان.
18- دوافع متنوعة: أبعاد النشاط الدبلوماسي لقائد الجيش السوداني “البرهان”.
19- تصعيد التوتر: ما تداعيات تسليح قبائل الشرق على جوار السودان؟
20- ارتدادات سلبية: كيف يؤثر الصراع السوداني على تفاعلات الداخل في تشاد؟
21- حفظ السيادة: رفض الجيش السوداني قوات حفظ السلام من شرق أفريقيا.
22- مواجهة التصعيد: أسباب الانخراط الأفريقي في جهود تسوية الأزمة السودانية.
23- حدود الانخراط: لماذا صعّد الاتحاد الأوروبي ضغوطه على طرفي الصراع في السودان؟
24- استهداف الوكيل: لماذا تزايد الاهتمام الأمريكي بدور “فاجنر” في السودان؟
25- بوابة جيواستراتيجية: ماذا تُريد روسيا من التقارب مع السودان؟
26- مصالح عميقة: دوافع الصين لرفع عقوبات مجلس الأمن عن السودان.
27- منطلقات متعددة: لماذا يعمل مجلس السلم الأفريقي على تعزيز انخراطه في الأزمة السودانية؟
28- نفاذية الانتشار: الانعكاسات المحتملة للصراع الداخلي السوداني على الاستقرار الإقليمي.
29- حزام النار: التأثيرات الإقليمية للاشتباكات المسلحة بين الجيش السوداني و”الدعم السريع”.