من الحجج، التي أقنعت بريطانيين مثلي بمعارضة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أن ذلك سوف يؤدي إلى سيل من المشكلات الدبلوماسية الجديدة التي لا تحتاجها المملكة المتحدة مقابل نوع من «الحرية» الجديدة المستنزفة للطاقة. صحيح أن الاتحاد الأوروبي في حالة من الفوضى، ولا أعتقد أنه سيظل قائماً للعقد المقبل لو لم ينفذ إصلاحات جذرية. مع ذلك كان من الحتمي دوماً أنه إذا انفصل البريطانيون عن الاتحاد فسوف يعاقبنا شركاؤنا الرافضون لذلك، وهم يفعلون ذلك بالفعل.
حتى في ظل مجابهة حكومة بوريس جونسون لوباء «كوفيد-19»، يواجه في الوقت ذاته عدداً من الأزمات المرتقبة تمثل تداعيات لانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي. وأول تلك الأزمات هي التوتر بين بريطانيا وإسبانيا بشأن جبل طارق، الذي يمثل مشكلة مزعجة بالنسبة إلى الإسبان منذ استحواذ بريطانيا على «الصخرة» التي تقع عند مدخل البحر الأبيض المتوسط من خلال غزو عام 1704. ويرى الإسبان إهانة في تمسك البريطانيين بهذه الرقعة الصغيرة من أرضهم، حيث تكررت حالات ووقائع التنازع والمشاحنات التي تتراوح بين تبادل الإهانات وبين إغلاق الحدود. وتم فرض الحصار أكثر من مرة على تلك الصخرة كان أحدها خلال الفترة بين 1727 و1728 والتي كتب عنها جندي بريطاني مجهول في مذكراته: «لا يوجد هنا ما يمكن فعله ولا أي أنباء، فكل شيء ساكن ومعلق، وتوجد كل أشكال الانحرافات من رقص وشراب لقضاء الوقت».
لم تتغير الأمور كثيراً، فقد رأت الحكومة البريطانية لسنوات أنه من الحنكة والحكمة السياسية تجاهل السمعة السيئة لجبل طارق كمقصد لغسل الأموال والمقامرة عبر الإنترنت. وأصبح البريطانيون والإسبان متأدبين بدرجة ما مع بعضهما البعض بشأن هذا الأمر حين كانوا أعضاء في الاتحاد الأوروبي، لكن لم تتخل مدريد يوماً عن مطالبتها بحقها في جبل طارق. وتم تأجيل التوصل إلى تسوية لهذه المسألة خلال المفاوضات الخاصة بمعاهدة الـ«بريكست» (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، لكن تقترح المفوضية الأوروبية في بروكسل اتفاق جديد يقضي بتمتع كل من الصخرة وإسبانيا بالوحدة الجمركية، وحدود بلا احتكاك تحت حكم الاتحاد الأوروبي. مع ذلك يؤكد دومينيك راب، وزير الخارجية البريطاني، أن مقترح الاتحاد الأوروبي «يستهدف تقويض سيادة المملكة المتحدة على جبل طارق». الأمر المؤكد في هذا النزاع على أرض يبلغ عدد سكانها 34 ألفاً فقط هو أنه يصعد الأزمة بين بريطانيا وإسبانيا بلا داع. ويقضي المنطق بأن تتنازل المملكة المتحدة عن الأراضي التي لم تعد لها أي قيمة أو أهمية استراتيجية، لكنني على ثقة بأن بريطانيا سوف تظل متمسكة بالصخرة وسكانها الأكثر شهرة إلى أن أصبح في القبر، فكلما ازداد هوس وتعصب دولة بشأن مكانتها في العالم، ازدادت احتمالات تمسكها برموز صغيرة.
في أقصى الشمال يجلب الطقس المعتدل المنعش عبر القناة الإنجليزية من فرنسا أسطول من القوارب وعدداً من الشاحنات المحمولة على المعديات (المعبرات) التي تنقل مهاجرين غير شرعيين، أكثرهم من أفريقيا. ويبذل الفرنسيون جهوداً للتكيف مع تزايد عدد الهاربين الاقتصاديين، وسيسعدهم بلا شك أن يشهدوا أكبر عدد ممكن من الرحلات إلى أرض «اللحم البقري المحمر».
وقد كان متوقعاً من جانب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن اتفاق الـ«بريكست» سوف يمحو آخر أثر للدعم الفرنسي للحد من مرور المهاجرين عبر القناة الإنجليزية، وقد تبين صحة ذلك. وتعهد البريطانيون في يوليو (تموز) بمنح أكثر من 75 مليون دولار إلى فرنسا لزيادة دوريات الحدود، لكن لا يوجد شخص عاقل حكيم يتوقع أن ينهي هذا الأمر سباق القوارب اليومي المتجه نحو ميتاء دوفر.
ما كان يُسمى منذ قرن بالاتفاق الودي أصبح أقل وداً بدرجة كبيرة، وعليه أصبحت آيرلندا مركز ومصدر أكثر النزاعات الحدودية جدية وخطورة وإزعاجاً بالنسبة إلى حكومة «وستمنستر»، حيث باتت تهدد بإعادة إشعال وإثارة العنف الطائفي. وبالعودة إلى الاستفتاء على الـ«بريكست» عام2016، سنرى أن رئيس الحكومة بوريس جونسون ورفاقه قد استبعدوا الاستحالة الواضحة للتوافق بين الـ«بريكست» وشروط اتفاق سلام «الجمعة العظيمة» الآيرلندي باعتبار الأمر مجرد مسألة فنية. ويعترف الاتفاق، الذي تم إبرامه عام 1998، وأنهى ثلاثة عقود من الصراع، بالطموحات المشروعة لمواطني آيرلندا الشمالية لإقامة دولة موحدة بطرق سلمية بدلاً من الحروب الإرهابية. على الجانب الآخر أتاح اتفاق الـ«بريكست»، الذي وقّعته حكومة جونسون، الإبقاء على الحدود بين جمهورية آيرلندا في الجنوب، التي لا تزال عضواً نشطاً في الاتحاد الأوروبي، وآيرلندا الشمالية مفتوحة من خلال الاتفاق على فرض تفتيش جمركي على السلع التي يتم نقلها عبر البحر الآيرلندي من وإلى البر الرئيسي البريطاني، وكل ذلك لتفادي المساومة على تكامل ووحدة السوق الموحدة الأوروبية.
على الجانب الآخر أعلن جونسون مؤخراً أن آيرلندا الشمالية تمثل جزءاً من المملكة المتحدة مثلها في ذلك مثل المناطق الأخرى التي تمثل جزءاً أصيل من أراضيها أي: إنجلترا وأسكوتلندا وويلز، وهذا غير صحيح. لم يسع أي وزير خارجية بريطاني منذ تقسيم آيرلندا عام1921 إلى التظاهر بمثل هذا. وقد أقرّت الحكومات البريطانية الحديثة بأن تظل آيرلندا الشمالية جزءاً من المملكة المتحدة طالما رغب الشعب الآيرلندي في ذلك، وقد أظهرت استطلاعات الرأي أن الأغلبية في الشمال تفضل حالياً إجراء استفتاء بشأن هذه المسألة تحديداً.
وتسلط التوترات بشأن جبل طارق والهجرة وآيرلندا الشمالية الضوء على المخاطر التي تواجهها الدول كنتيجة وعاقبة للقيام بذلك الاختيار التاريخي المتمثل في الانفصال عن الاتحاد الأوروبي. ويزعم المدافعون عن اتفاق الـ«بريكست» أنه سوف «يجعل بريطانيا تتمتع بالحرية» اللازمة لتنمية قدراتها وإمكانياتها. مع ذلك يمكن لتلك الحرية أن تؤدي إلى الوحدة أيضاً. ويزيد جونسون من عدد خصومه الخارجيين، وهم وإن لم يكونوا أعداء بالمعنى الحرفي يظلون أشخاصاً لا يتمنون له الخير، على نحو أسرع مما يكسب حلفاء ومعجبين.
نقلا عن الشرق الأوسط