عقد انتقالي:
الأزمات الإقليمية في الاستراتيجية العشرية الأمريكية

عقد انتقالي:

الأزمات الإقليمية في الاستراتيجية العشرية الأمريكية



بعبارة محدودة الكلمات، كتب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن على حسابه في “تويتر”، في أول أبريل الجاري: “سننفذ جنباً إلى جنب مع شركائنا الاستراتيجية العشرية لمنع الصراعات وتعزيز الاستقرار”. وعلى الرغم من أن تلك التغريدة- التي كتبها بلينكن بعد جولته الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط- ركزت على قائمة تضم دولاً عديدة، مثل هايتي وموزمبيق وبابوا غينيا الجديدة وليبيا؛ إلا أن الأخيرة استحوذت على قدرٍ كبيرٍ من الاهتمام، فالسفارة الأمريكية في ليبيا ألحقت “تغريدة” بلينكن بسلسلة تالية من “التغريدات” التوضيحية حول منظور الاستراتيجية الأمريكية خلال العشرية التالية. لكن تلك الاستفاضة لم تُزِلْ الغموض حول طبيعة تلك الاستراتيجية وجوهرها. ومع ذلك، فإن ثمة دلالات عديدة تطرحها تلك الاستراتيجية، منها القواسم المشتركة بين الدول التي أدرجت في تلك القائمة، وطبيعة الفاعلين الذين ستعمل معهم الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الدول وفي المقدمة منهم المجتمع المدني.

ملامح عديدة

كإطار عام، يأتي الحديث عن استراتيجية أمريكية لعقدٍ تالٍ، بعد انتهاء المرحلة الرئيسية في عشرية الفوضى التي شهدت الإطاحة ببعض النظم، سواء في بدايتها كما في حالة ليبيا التي بدأت بعملية اغتيال العقيد معمر القذافي، أو في نهايتها على نحو ما جرى في هايتي التي شهدت المشهد ذاته باغتيال الرئيس جوفينيل مويس على أيدي متمردين، حيث وجهت اتهامات عديدة إلى قوى خارجية في تلك الفوضى. ويعكس هذا السياق عدة مؤشرات تتعلق بملامح الاستراتيجية العشرية، ومنها على سبيل المثال:

1- التركيز على الإدارة المرحلية للأزمات: مع تراجع حدة الصراعات الإقليمية إلى مستوى التهدئة، في إطار عملية وقف إطلاق النار في ليبيا، أو اتفاقيات خفض التصعيد في سوريا، أو الهدنة التي تم التوصل إليها مؤخراً في اليمن، اتجهت الرهانات إلى الانتقال إلى مرحلة التسويات السياسية. لكن كافة المؤشرات تكشف مدى صعوبة إطلاق عمليات تسوية شاملة في حالات، أو إنجاز ما يتم التوصل إليه في إطار التسويات الانتقالية في حالات أخرى. وربما يفهم من سياق الرؤية العشرية الأمريكية أنه لا يزال من المبكر التعويل على الانتقال من عملية إدارة الأزمات إلى مرحلة ما بعد الأزمات، وقد تندرج خرائط الطريق تحت التصور ذاته، فهي جزء من الإدارة المرحلية أو التكتيكية للأزمات.

2- العمل على خفض حدة الصراع: وينطبق ذلك على كافة الأزمات الإقليمية، فدورة الاحتراب المسلح، بكافة مظاهره ومستوياته، استغرقت عشرية كاملة، وبالتالي فمعارك التسويات وخرائط الطريق قد تستغرق العشرية التالية، وهو تصور أقرب إلى الواقعية السياسية؛ إذ تحدث تحولات فارقة في الصراع المسلح عندما تصل الأطراف إلى مرحلة الإنهاك الكامل، يعقبها الانتقال إلى الدورة التالية التي تعتمد على مخرجات الصراع من حيث ثقل أوزان الفاعلين ومعادلات التفاعلات الداخلية والخارجية.

لكن اللافت في تغريدة بلينكن هو الإشارة إلى “الاستقرار”، بمعنى أن الاستراتيجية الأمريكية ستركز على الاستمرار في خفض حدة الصراعات أو تقويضها، على غرار ما يجري في ليبيا، حيث يعتقد أن واشنطن تضغط على أطراف الصراع السياسي لعدم خروجه عن السيطرة واندلاع صراع مسلح جديد.

3- توحيد نهج القيادة والسيطرة: هناك وحدة في المنظور العربي حول مشتركات الأزمات من منطلق الهوية الجيوسياسية باعتبارها طالت دولاً عربية في المقام الأول، وبالتبعية وحدة المصير ومقاربات الحل، وإن كانت التجربة عكست مدى هشاشة هذا المنظور، وهو ما يمكن الاستدلال عليه بدور الجامعة العربية في تلك الأزمات. لكن هذا المنظور مختلف في السياق الغربي، لأنه يقوم على اعتبارات مختلفة منها طبيعة التهديدات، حيث ينظر إلى سوريا جيوسياسياً كدولة شرق متوسط تُصدِّر تهديدات لأوروبا، وكذلك ليبيا كدولة في الساحل الإفريقي تمارس الدور ذاته، مضافاً إليه طبيعة المصالح خاصة ما يتعلق بملف الطاقة. وينظر إلى اليمن بحكم ما تشكله من تهديدات للمصالح في الخليج مصدرها إيران، وهو ما يفسر أن آلية الانخراط الأمريكي في الأزمة اليمنية تُدار عبر القيادة الوسطى الأمريكية، رغم أن واشنطن تضع اليمن ضمن النطاق الجغرافي لمنطقة القرن الإفريقي التي تتولاها قيادة “أفريكوم”، وكذلك ليبيا ومنطقة الساحل الإفريقي، مع الوضع في الاعتبار أن الآلية تبقى واحدة، فالقيادة الوسطى أو “أفريكوم”، أو غيرها، هي آلية واحدة تمثل وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون). ففي الأخير، لا اختلاف في طبيعة نهج القيادة والسيطرة والإدارة بما يخدم السياسة الخارجية الأمريكية.

وفقاً لهذا التصور، يمكن القول إن منظور الرؤية الغربية للأزمات العربية لا يصنفها كأزمات عربية، وإنما لديه معايير أخرى تختلف مرحلياً بحسب التطورات من آن لآخر، وقد يكون من بينها -وفقاً لما قاله بلينكن- منظور الرؤية الأمريكية للقواسم المشتركة في الملفات وطريقة إدارتها في العشرية المقبلة. وبالتبعية، فإن ليبيا ستكون ضمن إطار رؤية تشمل الدول التي تمت الإشارة إليها في قائمة بلينكن، وليس ضمن المنظور الأمريكي لترتيبات الشرق الأوسط التي تضمنتها الجولة التي قام بها. وعلى الرغم من أنه يصعب استبعاد باقي الأزمات الإقليمية من السيناريو نفسه، فلا يتوقع أن أزمات اليمن أو سوريا ستشهد مصيراً مختلفاً خلال العشرية التالية عن مصير ليبيا، إلا أن الفارق يكمن في منظور التعامل الأمريكي لكل منها على حدة خلال العشرية المقبلة.

4- التعويل على تراجع قدرة المنافسين: وهنا يشار تحديداً إلى روسيا، التي تبدو منشغلة في المرحلة الحالية بإدارة العمليات العسكرية في أوكرانيا، ومواجهة الضغوط التي تمارسها الدول الغربية عليها منذ بداية تلك العمليات في 24 فبراير الماضي، على نحو قد يخصم من قدرتها على الاستمرار في ممارسة دور رئيسي في التفاعلات التي تجري على الساحة الليبية على سبيل المثال، خاصة أن تلك العمليات لا يتوقع لها أن تنتهي قريباً، ولا سيما في ظل عدم نجاح الجهود التي بُذلت حتى الآن للتوسط بين الطرفين أو دفعهما إلى إجراء مفاوضات مباشرة على مستوى أعلى.

انعكاسات متوقعة

تكتسب ليبيا أهمية خاصة في التصور الأمريكي الجديد، وبتحليل رؤى الساسة والمراقبين في ليبيا، يتضح أنها تتجه تدريجياً إلى التماهي مع هذا التصور الذي اقتصر الإفصاح عنه على تغريدة بلينكن. فعلى سبيل المثال، وبمجرد إطلاق تلك التغريدة، سارع رئيس الحكومة المكلّف فتحي باشاغا إلى الترحيب بها، بناءً على تفسيرات النوايا التي قدّمتها السفارة الأمريكية بأن واشنطن تتجه إلى دعم الاستقرار في ليبيا، رغم أن هذا المضمون ورد تحت عناوين مشابهة في كافة المراحل الليبية السابقة، ويكاد يكون القاسم المشترك في كافة البيانات الأمريكية الخاصة بليبيا. وعلى العكس من ذلك، ربما لن يكون هذا التصور محل الترحيب ذاته لدى أطراف أخرى في ليبيا، على غرار القيادة العامة، لا سيما عندما تتم الإشارة إلى دور المجتمع المدني، في ظل المنظور السلبي لمعنى دور المجتمع المدني في ليبيا كمدخل لتعزيز دور القوى الخارجية بشكل عام.

وقد تثير النظرة الأمريكية لوضع ليبيا ضمن قائمة دول ستحظى بخطة عمل وإدارة بطريقة معينة وربما موحدة من الإدارة الأمريكية في الفترة المقبلة، قلق الدول التي تسعى باستمرار إلى إبقاء ليبيا ضمن الحاضنة العربية، في ظل ما تعرضت له خلال الفترة السابقة في هذه الجزئية بسبب أدوار القوى الخارجية، خاصة وأن هناك تحركات لتعزيز هذا التوجه عربياً بشكل عام وليس ليبياً فقط، ومنها المحاولات الدؤوبة لإعادة سوريا إلى الجامعة العربية.

منعطف جديد

في الأخير، هناك إرهاصات لتصور أمريكي يضع نقاطاً على الأحرف في أزمات المنطقة بشكل عام، على نحو يوحي بأن هناك منعطفاً قادماً في مسار الأزمات، ستكون الولايات المتحدة الأمريكية هي المحرك الرئيسي لهذا المسار، في سياق الرهان على تراجع قدرة منافسيها في تلك الساحات على غرار ليبيا، لا سيما روسيا في المرحلة المقبلة. والمتوقع أنه مع تغير الإدارة الأمريكية ربما لن يكون هناك تغير كبير على مدار العقد التالي في تفاصيل التعامل مع السياسة الخارجية في هذه الملفات، حيث سيكون هذا المنعطف أفضل حالاً من عشرية الصراعات المسلحة، لكنه في الوقت نفسه يقدم تصوراً -ولو مبدئياً- يشير إلى أن دول الأزمات وبالتبعية المنطقة أمامها -في الغالب- عقد كامل تتشكل فيه على التوازي ملامح جديدة.