شواغل مشتركة:
الأبعاد الحاكمة لزيارة المشير “حفتر ” إلى روما

شواغل مشتركة:

الأبعاد الحاكمة لزيارة المشير “حفتر ” إلى روما



تشكل زيارة القائد العام للجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر الأولى إلى روما في عهد رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، محطة استراتيجية هامة للنقاش حول قضايا الاهتمام المشترك بين الجانبين، لاعتبارات محورية جيواستراتيجية تتعلق بموقع ليبيا الخاص بالنسبة لإيطاليا في قضية الهجرة غير الشرعية، والتي تستدعي بالتبعية ترتيبات أمنية تتعلق بالحدود البحرية المشتركة، لا سيما المناطق الرخوة في الجنوب الذي يمثل المحطة الأولى للمهاجرين غير الشرعيين. كذلك يمكن اعتبار روما إحدى أهم الزيارات الخارجية التي ستحمل العديد من المكاسب السياسية للمشير حفتر كمرشح رئاسي، والأمنية كقائد عام للجيش الليبي، لتقديم أوراق اعتماده بصفته الرجل الأقوى في ليبيا حالياً ومستقبلاً.

فقد كشفت وسائل إعلام إيطالية وليبية عن أن الزيارة التي قام بها القائد العام للجيش الليبي المشير خليفة حفتر إلى إيطاليا والتقى خلالها رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني ووزراء الدفاع والخارجية والداخلية تضمنت النقاش حول أربع قضايا؛ حيث تصدر النقاش الرئيسي قضيتي الهجرة غير الشرعية والحدود، وما يرتبط بهما من تداعيات في ظل الأزمة السودانية، فيما أضافت وكالة “نوفا” الإيطالية أن كلاً من “ميلوني” و”حفتر” تطرقا إلى ملف الانتخابات الليبية التي ستجري العام الجاري، كما أشارت وكالة “آكي” الإيطالية أيضاً إلى تناول لقاءات “حفتر” مع رئيسة الحكومة والوزراء مخاوف ليبية من دور منظمة “آرا باتشي للسلام” الإيطالية التي عقدت مؤخراً لقاءات مع شخصيات من الجنوب الليبي بهدف استيعاب المهاجرين في المنطقة.

قضايا متشابكة

وبشكل عام، لا يمكن الفصل بين تلك القضايا حيث تتشابك مع بعضها بعضاً، لكن في الوقت ذاته يمكن القول إن هناك أولويات في النقاش بين الطرفين، ولا سيما قضيتي الهجرة غير الشرعية التي تتصدر أولوية لدى الجانب الإيطالي، والعملية السياسية والدعم العسكري الذي يمكن أن تقدمه إيطاليا للقيادة العامة، وهو ما يمكن تناوله في السياق التالي:

1- تحديات ضاغطة للطرفين الليبي والإيطالي: تشكل قضايا الهجرة غير الشرعية والحدود هاجساً أمنياً كبيراً لدى الطرفين، فميلوني تعهدت في حملتها الانتخابية العام الماضي بمعالجة الهجرة غير الشرعية من المنبع عبر “الحصار البحري” من خلال بناء عملية أمنية أوروبية وبالتفاوض مع ليبيا، لكنها تأجلت لبعض الوقت نظراً لظروف تعثر العملية السياسية وتأخر مشروع توحيد المؤسسة العسكرية في ليبيا، إلا أن ميلوني باتت تواجه تحدي استمرار ترحيل الملف نتيجة ضغوط من المنظمات الداخلية والمعارضه البرلمانية في ظل نشر وسائل الإعلام تقارير حول ارتفاع معدلات المهاجرين بشكل غير مسبوق، وفشل حكومة غرب ليبيا في كبح هذه الظاهرة، ناهيك عن أن اندلاع الحرب في السودان سيشكل عامل ضغط إضافياً في زيادة تلك المعدلات. وفي المقابل، تواجه القيادة العامة تحدي ضعف الأدوات الأمنية للسيطرة على الحدود التي يتدفق منها المهاجرون، فضلاً عن مخاوفها من توجه منظمات خارجية لمعالجة المشكلة على حساب الليبيين بإبقاء المهاجرين في جنوب ليبيا بشكل مستدام.

2- استقطاب حفتر في المعسكر المضاد لفاغنر: تطرقت الزيارة إلى قضية مجموعة “فاغنر” الروسية والتي أصبحت قضية مدرجة على الأجندة الدولية في سياق معارضة القوى الغربية نظراً لدورها في الحرب الروسية الأوكرانية بشكل خاص، ودورها على الساحة الأفريقية بشكل عام، فيما تشكل كل من ليبيا والسودان مراكز لأنشطتها وفقاً للرؤية الغربية، ومن ثم تلعب روما دوراً في استقطاب المشير حفتر إلى المعسكر الغربي الساعي إلى محاصرة “فاغنر” في تلك المناطق، وقد بدأت واشنطن هذا المسار بالتنسيق ما بين حفتر والقيادة الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم)، وبالتالي تستكمل إيطاليا هذا المسار.

عودة روما

من المتصور أن الدور الإيطالي هو دور مركزي في ليبيا تاريخياً، لا ينظر إليها في الداخل الليبي كلاعب دولي، وإنما كدولة جوار ساحلي، أو كلاعب إقليمي، كما أن إيطاليا لاعب رئيسي في التفاعلات الليبية في مرحلة ما بعد القذافي، ولا سيما في العملية السياسية، لكن شكلت قمة باليرمو الإيطالية (نوفمبر 2018) نقطة تحول في تراجع الدور الإيطالي في ليبيا، إذ فشلت القمة في احتواء الأزمة بين الجيش الليبي وحكومة الوفاق، واندلاع الحرب بعدها بعدة أشهر بين الطرفين، إلا أن الساحة باتت مهيأة لعودة انخراط إيطاليا في العملية، فضلاً عن دوافع العودة وهو ما يمكن التطرق له في بعدين:

أولهما، تأثير تراجع المنافسين الدوليين: لا سيما تركيا التي سحبت البساط من قبل من تحت أقدام إيطاليا بعد قمة باليرمو 2018، وانحازت سياسياً وعسكرياً لحكومة الوفاق، إلا أن تركيا أصبحت منشغلة بملفاتها الداخلية بعد الزلازل التي تعرضت لها، والانتخابات الرئاسية المقبلة، بالإضافة إلى انتهاج أنقرة التهدئة مع القوى الإقليمية المنخرطة في ليبيا بشكل عام ومن بينها إيطاليا التي أعلنت موخراً تقاربها معها في الملف الليبي، مع الأخذ في الاعتبار أن الوجود البحري التركي في غرب ليبيا ساهم في خلق هامش من التوتر بين روما وأنقرة، مما اضطر روما إلى منافستها عسكرياً مع حكومة غرب ليبيا (الوحدة الوطنية)، حيث أبرمت روما اتفاقيات لبرامج تدريب بحري لمقاومة الهجرة غير الشرعية وزودتها بزوارق بحرية، وبالتالي فمن المتصور أن روما تسعى لتمدد بحريتها في غرب ليبيا بالتعاون مع حفتر.

ثانيهما، تنامي المصالح الإيطالية في ليبيا: أبرمت روما أكبر اتفاقية للطاقة في ليبيا خلال العام الجاري بواقع 8 مليارات دولار، لتصبح أكبر شريك نفطي لها، ولتأمين هذه المصالح وغيرها يتعين على روما عدم الاقتصار على التعاون مع حكومة غرب ليبيا، خاصة وأن المشير حفتر لديه من النفوذ والقدرة على السيطرة على الشرق والجنوب الليبي، وهي المناطق التي تتواجد فيها حقول النفط بشكل رئيسي، بالإضافة إلى أن روما تراهن على أن تكون شريكاً رئيسياً أيضاً في عملية إعادة إعمار ليبيا في المستقبل ما بعد عملية التسوية، ومن ثم توسع علاقاتها مع مختلف الأطراف الليبية ومن بينهم المشير حفتر.

مكاسب حفتر

من المتصور أن المشير “حفتر” سيحصل على العديد من المكاسب في هذه الزيارة، وهو ما يمكن تناوله في النقاط التالية:

1- بدء جولة تسويق انتخابية لـ”حفتر” داخلياً وخارجياً: أشارت العديد من الوكالات الإيطالية إلى مدى دعم إيطاليا لإجراء انتخابات في ليبيا خلال العام الجاري، مما يجعل من الزيارة محورية بالنسبة لهذا الملف. إذ يرجح أن زيارة حفتر لإيطاليا هي بداية لجولات خارجية ستشمل عدداً من العواصم الأوروبية التي تشكل روما مركز الثقل فيها بالنسبة لليبيا، فهي ليست فقط مركزاً للجالية الليبية، وإنما أيضاً مركز لشبكة مصالح متعددة المجالات من السياسي والاقتصادي إلى الثقافي، وعلى نحو ما سبقت الإشارة من أن “حفتر” أحد أبرز المنافسين في الانتخابات الليبية، فمن الأهمية بمكان له تسويق نفسه كمرشح قوي يمتلك احترافية سياسية، بالإضافة إلى أداة القوة العسكرية، وهي العوامل التي تجعله مصدر جذب لإيطاليا، والتي ستشكل بوابة إلى فرنسا وربما ألمانيا وبريطانيا باعتبارهما القوة الأوروبية الرئيسية وذلك بعد الانفتاح الذي جرى بينه وبين الولايات المتحدة مؤخراً.

كذلك، بإمكان المشير حفتر تسويق الزيارة داخلياً على أكثر من صعيد، فبما أن إيطاليا لاعب قوي في غرب ليبيا مع حكومة الوحدة، التي قد يكون رئيسها منافساً محتملاً في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فمن الأهمية بمكان للمشير حفتر كسب ود إيطاليا أيضاً باعتباره سياسياً يمتلك مميزات الرئيس المقبل الذي يمكنه إسداء خدمات لإيطاليا ربما تتجاوز خدمات “الدبيبة”، فهو من يملك زمام الأمور في الجنوب الليبي مقارنة بالدبيبة، والجنوب الليبي هو المحطة الرئيسية لتدفق الهجرة غير الشرعية. كذلك فإن تناول حفتر لقضية منظمة “آرا باتشي للسلام” سيزيد من أسهمه الانتخابية، ولا سيما في ظل الرفض الشعبي لهذه القضية.

2- إجراء الترتيبات الأمنية المشتركة لمواجهة الهجرة غير النظامية والحدود السائبة: بحسب ما أوردته الوكالات الإيطالية والليبية بشأن جدول أعمال الزيارة، والتي توافقت مع البيان الصادر عن القيادة العامة للجيش الوطني الليبي، والذي تمحور حول مناقشة المشير “حفتر” لقضيتي الهجرة غير الشرعية وملف الحدود، فمن الأهمية بمكان الإشارة أيضاً إلى أن “حفتر” يرافقة وفد من القيادة العامة، وقد التقى هذا الوفد مع وزراء الداخلية والدفاع، ومن المتصور أن تلك اللقاءات ناقشت عدداً من الترتيبات الأمنية المستقبلية بين الطرفين، فيما يعد أول انفتاح من نوعه بين الطرفين، فقد أثارت بعض التقارير الصحفية قضية تقويض دور مجموعة “فاغنر” الروسية في ليبيا على لسان ميلوني، وهي قضية محل اهتمام كافة القوى الغربية.

إلا أنه من المتصور أن إيطاليا التي تتصدر القوى الأوروبية بشأن قضية الهجرة غير الشرعية، ستركز بشكل رئيسي على جملة من الترتيبات الأمنية مع القيادة العامة، وفي المقدمة منها قضية تأمين الحدود الجنوبية مع تشاد والنيجر والسودان، وهي القضية التي تمنحها واشنطن أيضاً أولوية، إلا أن إيطاليا تتداخل معها بسبب زيادة المهاجرين، ومن ثم سينجم عن ذلك أيضاً على الأرجح قضية تدريب وتسليح القيادة العامة لقوة بحرية يمكنها المشاركة كخفر سواحل لمشاركة جهودها في التصدي للهجرة غير الشرعية، بالإضافة لنقطة مهمة هي أن تراجع الدور الإيطالي في السابق لصالح تركيا تبعه انتشار بحري تركي في سواحل غرب ليبيا، ومن ثم فمن المتوقع أن عودة تنامي الدور سيعيد بالتبعية البحرية الإيطالية ولا سيما في شرق ليبيا في إطار التعاون مع القيادة العامة، وفي المقابل تعتبر البحرية الإيطالية متقدمة عالمياً وستقدم خبرات نوعية للقيادة العامة.

أولوية سياسية

إجمالاً، من المتصور أن زيارة حفتر إلى إيطاليا تحمل مكاسب للطرفين، يتصدرها القواسم المشتركة في القضايا ذات الطابع الأمني، المتمثلة في ضبط الحدود والترتيبات الأمنية المشتركة، لكن في المقام الأول من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن أولوية المشير حفتر هي سياسية في المرحلة الحالية، وبالتالي فإن الانفتاح على إيطاليا يخدم هذه الأجندة، ويساهم في تقديمه في إيطاليا وفي الغرب عموماً باعتباره الرجل القوي في ليبيا، خاصة وأن الملفات التي ناقشها في روما هي ذاتها الملفات التي سبق وتم النقاش حولها مع الجانب الأمريكي، بغض النظر عن ترتيب الأولوية، وبالتالي يكسب “حفتر” أكثر من منافسيه في الساحة الليبية، إذا ما قورن بالدببية الذي تختلف معه القوى الغربية في تمسكه بالسلطة بعد الفترة الانتقالية الفاشلة، أو حتى سيف الإسلام القذافي الذي ينظر له الغرب كمرشح مدعوم من روسيا في المقام الأول.