خلال الفترة السابقة، كان ينظر إلى التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود على أنها مصدر التهديد الأمني الأساسي. إلا أن هذا التصور تراجع نسبياً في بعض الحالات مع الهزيمة التي منى بها تنظيم “داعش” في كل من العراق وسوريا فضلاً عن الضربات الأمنية القوية التي تعرض لها وتسببت في خسائر بشرية ومادية كبيرة بالنسبة له. ومع ذلك، فإن المؤشرات الحالية تكشف عن انتقال التنظيمات الإرهابية إلى مواقع أخرى، لاسيما في شمال ووسط أفريقيا، حيث تتحرك بين الحدود الرخوة لدول القارة.
لكن اللافت في هذا السياق، هو أن ثمة ظاهرة أخرى مشابهة لم تحظ بالدرجة نفسها من الاهتمام رغم خطورتها وتداعياتها، وتتعلق بتمدد الجماعات الإثنية والقبلية عبر الحدود، على نحو فرض تهديدات أمنية لا يمكن تجاهلها، يتمثل أبرزها في عملية تغيير الميزان الديمغرافي في بعض الأقاليم داخل الدول، وهى مشكلة أثيرت، على سبيل المثال، عندما تصاعدت حدة الخلافات بين الحكومة الاتحادية العراقية وإقليم كردستان الذي يحظى بالحكم الذاتي، حول قضية كركوك. كما أنها شكلت هاجساً في إطار القضية الكردية، بشكل عام، خاصة فيما يتعلق بتنقل المجموعات الكردية الموجودة في كل من العراق وسوريا وإيران وتركيا، بنسب متفاوتة وبحسب طبيعة العلاقات ما بين تلك المكونات، وهى علاقات تتأثر بمصالح وحسابات تلك الدول والتطورات التي شهدتها في العِقد الأخير.
إثنيات متحركة
في المرحلة الراهنة، ظهرت هذه القضية بشكل أعمق في الحالة الليبية، وهو ما تشير إليه العديد من التقارير المحلية بشأن تمدد إثنيتى “التبو” و”الطوارق” في ظل عبور مجموعات من تلك الإثنيات عبر الحدود من دول الجوار الليبي، على غرار مالي والنيجر. وتكشف تلك التقارير أن هناك نموذجاً آخر يلوح في الأفق ويتعلق بـ”الأمازيغ”.
وفي واقع الأمر، فإن هناك إشارات واضحة إلى أن النظام الليبي السابق كان يدرك تلك المخاوف، وعمل على مكافحتها عبر ثلاث آليات أساسية: أولاها، تتمثل في تعزيز التوازن الديمغرافي للقوى العربية. وثانيتها، تنصرف إلى الحد من عمليات التسلل الإثني عبر الحدود. وثالثتها، تتصل بتأسيس مناطق حضرية في الجنوب، لكن الحد من هذه الظاهرة تراجع وربما توقف بطبيعة الحال بعد انهيار النظام في عام 2011.
انعكاسات مباشرة
انعكست تداعيات هذه المشكلة في الحالتين العراقية والليبية على المستوى الأمني. ففي الحالة العراقية، ظهرت هذه التداعيات في التعثر الذي واجهته عملية تسوية الخلاف حول تقاسم الموارد، وإمكانية القيام بالحصر السكاني النهائي للتعامل مع معضلة كركوك. وفي الحالة الليبية، ظهرت هذه التداعيات في سياق العملية الانتخابية التي سوف تجرى في 24 ديسمبر الجاري رغم عدم استبعاد تأجيلها، في ظل عدم وجود رقم المسلسل الوطني أو بطاقات الهوية لتلك المجموعات، حيث تشير تقارير عديدة إلى أن العدد تجاوز مئات الآلاف من المجموعات الوافدة عبر عشر سنوات من الفوضى الحدودية في مرحلة ما بعد عام 2011.
وتجدر الإشارة في هذا السياق أيضاً إلى أن الظاهرة نفسها مرشحة بقوة في الحالة السورية، خاصة في نموذج شرق الفرات، مع الجهود التي تبذلها القوى الكردية من أجل الهيمنة على مناطق القبائل العربية. وهنا، فإن المشكلة تكمن في أن مثل هذه النوعية من الظواهر تستدعي على الفور نموذج الانفصال أو الحكم الذاتي أو النموذج الفيدرالي على المديين المتوسط والطويل، حيث تحرص تلك المجموعات على بناء نماذج سلطة ذاتية، مثل الكونجرس التباوي أو الكونجرس الأمازيغي، لاسيما أن تدخلات بعض القوى الدولية تدعم، في معظم الحالات، هذه التطلعات من مدخل دعم الأقليات في الشرق الأوسط بشكل عام.
إشكاليات متعددة
تكشف عملية تقييم المعالجات الخاصة بالتعامل مع هذه الظاهرة عن عدم القدرة على إيجاد حلول جذرية لها بشكل كامل، على نحو يوحي بأنها تواجه إشكاليات عديدة منها على سبيل المثال:
1- سياسة ترحيل الملفات والخلافات: وهو ما يبدو جلياً في الحالة الليبية، حيث لم يطرح هذا الملف على الطاولة السياسية، باعتباره أحد الملفات الشائكة، بينما يتم التعامل معه في إطار التقاطع مع ملفات أخرى، على غرار ملف الفوضى الأمنية التي تشهدها مناطق الجنوب على سبيل المثال، إذ تتحرك اللجنة العسكرية المشتركة في إطار آلية دول الحوار للحد من ظاهرة المرتزقة والمقاتلين الأجانب الأفارقة، لكنها تصطدم بتحديات سياسية عديدة أبرزها أن خريطة تلك المجموعات تضم قوى تتبنى أجندات متباينة وتسعى إلى التمرد على الترتيبات السياسية والأمنية التي يجري العمل على صياغتها، وهو ما يتطلب الوصول إلى تفاهمات معها كخطوة أولى.
كذلك في الحالة العراقية، ورغم توصل الحكومة العراقية وإقليم كردستان إلى تفاهمات بشأن حل مشكلة كركوك، إلا أنها لم تدخل حيز التنفيذ بشكل كامل، بل إن المشكلة تتجدد وتتفاقم من حين لآخر عندما ينشب خلاف سياسي أو أمني ثم تختفي مرة أخرى.
2- محدودية آليات المعالجة المتاحة: والتي لا تزال تقتصر، إلى حد كبير، على الآلية الأمنية، وهى معالجات تفرض تأثيرات محدودة، كما سلفت الإشارة في النموذج الليبي، بالنظر إلى المساحة الشاسعة في الجنوب الليبي، والتي تحتاج إلى قوة تأمين هائلة من الجيش الوطني، وهو ما اضطره إلى اللجوء إلى خيار إبرام تحالفات مع القبائل لمساعدته في هذا السياق.
3- غياب الرؤية السياسية للتسوية: لا توجد معالجات سياسية للإشكاليات التي تطرح في هذا الإطار، في ظل الأزمة السياسية التي تشهدها بعض الدول، وهو السياق نفسه الذي يبدو جلياً في الحالة السورية التي تتعمد تركيا استغلالها في ظل غياب أى آلية سياسية سورية لمعالجة هذا الواقع، حيث تدفع بمجموعات عربية إلى مناطق الحدود بهدف تغيير الوزن الديمغرافي للأكراد، من خلال سياسة إعادة توطين اللاجئين، وهى الخطوة التي تدفع الأكراد إلى التحرك من أجل دفع القوى العربية نحو التوجه إلى مناطق الجنوب عند الحدود مع العراق.
4- مسئولية الأطراف الأخرى المعنية: وتتمثل في دول الجوار في حالة مثل ليبيا، إذ لم تحد بعض تلك الدول من عمليات التسلل الحدودي، بل ربما من المتصور، وفق بعض التقديرات، أنها قد تكون مستفيدة من التخلص من تلك المجموعات التي قد تشكل عبئاً سياسياً وأمنياً، بالإضافة إلى العبء الاقتصادي، ومن ثم لا تنخرط في عملية سياسية فعلية لمعالجة هذا الأمر على نحو يفرض في النهاية تحديات إضافية داخل ليبيا.
مكونات مستهدفة
على هذا النحو، من المتصور أن هناك اتجاهاً يستهدف بالأساس مكونات عربية، لخلخلة الوزن الديمغرافي في العديد من الحالات، حيث تستفيد الأطراف التي تتبنى هذا الاتجاه من السيولة التي تشهدها الحدود المشتركة، فضلاً عن الأزمات الداخلية التي تتفاقم حدتها في دول الأزمات، بالإضافة إلى عامل الإسناد الخارجي، وتعمل في الوقت ذاته على تعزيز ميزان القوى استعداداً لأية مواجهة محتملة معها في المستقبل.