استدامة الصراعات فى الوطن العربى – الحائط العربي
استدامة الصراعات فى الوطن العربى

استدامة الصراعات فى الوطن العربى



يشهد الوطن العربى منذ أحداث ما سُمى الربيع العربى عدداً من الصراعات الداخلية ذات الأبعاد الخارجية، وقد تجاوزت هذه الصراعات العقد عمراً دون بارقة أمل فى قرب حلها أو تسويتها رغم كثرة ما جرى من محاولات لذلك، وأحياناً تم التوصل لاتفاقات كان مصيرها دوماً الانتكاس أو التجمد، ويجد المتأمل فى تفسير استدامة هذه الصراعات أسباباً عديدة لعل من أهمها تعقد البنية الاجتماعية فى معظم البلدان العربية بحيث توجد انقسامات قبلية وطائفية وعرقية متشابكة كرست مع غياب الحوكمة السياسية ميراثاً من الإجحاف ببعض المكونات الاجتماعية أو على الأقل التمييز ضدها، وأفضى هذا عادة إلى حالات من الاحتقان السياسى وصلت أحياناً الى صراعات أهلية عنيفة، لكن ثمة ملمحاً سياسياً مستجداً ربما كانت له جذور فى الماضى لكنه تحول إلى ظاهرة عقب الانتفاضات الشعبية منذ مطلع العقد الثانى من هذا القرن، وهو أن القوى السياسية المتناحرة فى عديد من البلدان العربية أصبحت لها أذرع عسكرية بعضها يتمتع بوضع رسمى أو شبه رسمى والبعض الآخر خارج تماماً عن سلطة الدولة بما يهدد كيانها، ولذلك فإن احتداد الخلافات وغياب التوافق بين القوى السياسية قد يفضى إلى صدامات مسلحة وصلت أحياناً إلى حد الحروب الأهلية الكاملة التى سقط فيها عشرات الآلاف من الضحايا ليس فقط من المتحاربين وإنما من الأبرياء أيضاً.

ويعنى ما سبق إفلاساً للسياسة حاضراً ومستقبلاً، فالصدامات المسلحة تعنى أن الآليات السياسية لنظام الحكم عجزت عن إيجاد الحلول للإشكاليات السياسية القائمة، كما أن وجود القوة المسلحة بيد الفصائل السياسية المتناحرة يصادر على مستقبل الاحتكام إلى الآليات السياسية للحل مادام أن هذه الآليات كالانتخابات مثلاً يمكن أن تأتى بغير ما تشتهيه الفصائل المسلحة، وهو ما نشاهده بأعيننا فى العجز عن إجراء الانتخابات رغم الاتفاق عليها، أو تعويق التوصل إلى وفاق وطنى بعد إجراء الانتخابات التى لا تأتى عادة بأغلبية مريحة لأى من القوى السياسية بسبب حالة الانقسام المجتمعى والسياسى التى تعانيها بلدان الصراعات، ولذلك فإن الفصائل المسلحة تعوق الحلول السياسية مالم تكن فى مصلحتها، وبما أن التناحر هو سمة الموقف فإن التوصل إلى حلول ترضى الجميع شبه مستحيل، وهو على الأقل لم يحدث حتى الآن رغم طول أمد الصراعات لدرجة أن إحدى الأفكار التى باتت شائعة فى تفسير استدامة الصراعات أن أطرافها المسلحة تتربح من استمرارها مادامت وُجِدَت الموارد لتمويل المقاتلين المحترفين من قِبَل من يعمل هؤلاء المقاتلون لمصلحتهم، وتزداد خطورة ظاهرة عسكرة الخلافات السياسية عندما يتبين بوضوح الدور الخارجى فيها، فصحيح أن الفصائل المسلحة يمكن أن تكون تعبيراً عن مكونات محلية، لكن الدور الخارجى فى تأسيسها وتمويلها وتوظيفها يكون شديد الوضوح فى أحيان كثيرة، بل إن القوى الخارجية لا تكتفى عادة بالعمل على إنشاء فصائل مسلحة فى الداخل ودعمها وإنما أصبح من الواضح فى أكثر من حالة أنها تجلب المرتزقة الأجانب لبلدان الصراعات لعلهم ينجحون فيما فشلت فيه الميليشيات المحلية.

ولقد عرف النظام العربى بعد نشأته فى النصف الثانى من أربعينيات القرن الماضى ظاهرة توظيف القوة العسكرية فى السياسة ولكن فى سياق أكثر رقياً بكثير، وصحيح أن ظاهرة الانقلابات العسكرية قد ارتبطت أحياناً بصراعات قوى محلية أو بمصالح دولية، لكنها انطوت بصفة عامة على أهداف استقلالية وتحديثية، كما فى حركة الضباط الأحرار فى مصر فى يوليو١٩٥٢التى تحولت إلى ثورة غيرت وجه مصر والوطن العربى وإفريقيا بل والعالم الثالث، وفى العراق١٩٥٨ حيث وضعت نهاية لنظامه الموالى للغرب، وفى اليمن١٩٦٢حين قُضى على نظام الإمامة الظلامي، كذلك فإن القوة العسكرية قد وُظفت فى معارك تاريخية ظافرة للتحرر الوطنى كما فى حرب التحرير فى الجزائر (١٩٥٤-١٩٦٢)، وجنوب اليمن (١٩٦٣-١٩٦٧) فما أبعد الليلة عن البارحة!

ويبدو من التحليل السابق أن الصراعات الراهنة فى الوطن العربى تدور فى حلقة مفرغة، فالدولة فى بلدان هذه الصراعات إما ضعيفة وإما غائبة بحيث لا تستطيع القيام بدورها فى تحقيق الوئام الوطني، فإذا تصورنا أن الحل يمكن أن يتمثل فى حركة شعبية جارفة تكتسح كل رموز البنية التى أفرزت الصراعات وفرضت استدامتها لوجدنا أن هذا المشهد قد حدث بالفعل فى بلدان عربية عديدة مرة فى مطلع العقد الثانى من القرن الحالى وثانية قرب نهايته دون أن يفضى لأى تقدم، إن لم يكن قد أدى لنتائج سلبية بسبب الضعف التنظيمى والتفتت السياسى لقوى الانتفاضات الشعبية فى مقابل القوة النسبية لتنظيمات ما يُسمى الإسلام السياسى والتدخلات الخارجية، وإذا فكرنا فى أن المخرج قد يكون فى ظهور قيادة كاريزمية تنجح فى تحقيق التوافق الوطنى لاكتشفنا صعوبة ظهور هذه القيادة فى ظل الانقسامات الحادة بين القوى السياسية، كما أن عدم ظهور أى قيادة وطنية جامعة حتى الآن فى بلدان الصراعات رغم اشتداد الحاجة لها مؤشر بتأكيد عدم توافر الظروف الملائمة لبروزها، فإذا تصورنا أن الحل العسكرى يمكن أن يكون المخرج بمعنى أن يتغلب الفصيل الأقوى على الباقين وينفرد بالساحة لوجدنا أنه جُرب كثيراً دون جذوى لتشرذم الفصائل المسلحة وتدخل القوى الخارجية عند اللزوم لمنع هزيمة الفصائل العميلة لها أو انتصار الفصائل المعادية لمصالحها، وإذا ظننا فى المجتمع الدولى خيراً فسنجد أن قواه المؤثرة متناحرة فيما بينها أشد من تناحر الفصائل المسلحة، وأن منظماته العالمية والإقليمية عاجزة عن الفعل بسبب هذا التناحر، فأين المفر من استدامة الصراعات؟ قضية تستحق اهتماماً استثنائياً لأن نزيف البشر والموارد فى وطننا العربى قد فاق الحدود.

نقلا عن الأهرام