لم يضيع الرئيس الأمريكى جو بايدن وقتاً طويلاً فى حسم اختياره المبدئى بين المثالية السياسية والواقعية السياسية. بدأ الرئيس الأمريكى حملته الانتخابية الرئاسية فى النصف الثانى من عام 2020 مثالياً وبالذات بالنسبة لمسائل حقوق الإنسان والانحياز للديمقراطية، لكن عاماً ونصف العام تقريباً فى الحكم منذ يناير 2021 حتى الآن كانت كفيلة بتبديد كل انحيازات الرئيس الأمريكى المثالية وإجباره على الأخذ بالواقعية السياسية خصوصاً فى مسعاه للحفاظ على النظام العالمى أحادى القطبية الذى أخذ يتهاوى مع تفاقم “الأفول الأمريكى” من ناحية والصعود الصينى – الروسى المدعوم من قوى إقليمية كبرى جديدة من ناحية أخرى. هذه الواقعية تكشفت فى أقصى تجلياتها مع الغزو الروسى لأوكرانيا.فعل جو بايدن كل ما فى وسعه لإفشال هذا الغزو ولإجبار روسيا على الخروج من أوكرانيا مهزومة، وللقضاء على كل أحلامها فى النهوض كقوة عالمية شريكة فى نظام عالمى جديد متعدد الأقطاب. ضمن هذه الجهود الدءوبة قام الرئيس الأمريكى بجولتين شديدتى الأهمية ضمن نشاطاته لاحتواء روسيا وإفشالها فى أوكرانيا؛ الأولى كانت جولة أوروبية فى أبريل الماضى استهدفت حشد الدول الأوروبية وتوحيدها ضد روسيا وإجبارها على مقاطعة استيراد الغاز والنفط الروسيين، ودفعها لتقديم كل الدعم اللازم للحكومة الأوكرانية عسكرياً واقتصادياً وسياسياً. أما الجولة الثانية فكانت جولة آسيوية فى مايو الماضى زار خلالها كوريا الجنوبية واليابان وحضر فى طوكيو قمة لمنظمة “كواد” مع زعماء اليابان واستراليا والهند، غداة الإعلان عن شراكة اقتصادية مع 13 دولة آسيوية، هدد خلالها الصين بأنها «تلعب بالنار فى تايوان» مع تلميح صريح بأن «أمريكا ستدافع عن الجزيرة إذا تعرضت لغزو صينى».عقب ذلك جاء الإعلان الأمريكى عن جولة ثالثة للرئيس جو بايدن فى إقليم الشرق الأوسط. كان الترجيح أن تسبق هذه الجولة الشرق أوسطية جولة أوروبية ثانية للرئيس الأمريكى فى أواخر شهر يونيو الحالى، يحضر خلالها قمة لزعماء حلف شمال الأطلسى تعقد فى إسبانيا وقمة لزعماء مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى تعقد فى ألمانيا، وجرى إعلامياً تمرير معلومة تقول إن الرئيس الأمريكى سوف يزور إسرائيل يوم 23 يونيو الحالى، وربما يزور الضفة الغربية، وبعدها ربما يزور المملكة العربية السعودية، وعندها تفجر الجدل الذى لم يتوقف ولم يحسم حتى الآن خاصة السؤال عن: هل فعلاً سيزور الرئيس الأمريكى السعودية؟، بعد أن كان قد توعد المملكة أثناء حملته الانتخابية بأن يحولها إلى «دولة منبوذة»، فضلاً عن أنه، بعد وصوله للحكم، اتخذ قرارات ضد المملكة أقل ما يمكن أن توصف به أنها «لا تتماشى مع أهمية الشراكة التاريخية الأمريكية – السعودية التى تمتد لثمانية عقود» من بينها فرض قيود على توريد أسلحة بعينها إلى السعودية، وسحب بطاريات صواريخ أمريكية من المملكة، ورفع شخصيات «حوثية» من قائمة الإرهاب، والاعتراض على تنامى العلاقات السعودية مع كل من الصين وروسيا. الخبر المؤكد بهذا الخصوص أن الجولة الشرق أوسطية، بما فيها زيارة بايدن لإسرائيل ، قد تأجلت إلى يوليو المقبل لكن دون تحديد تاريخ حسب تسريبات لشبكة «إن بى سى» الإخبارية الأمريكية التى نقلت عن مسئول كبير فى الإدارة الأمريكية (4/6/2022) قوله “نحن نعمل على تنظيم زيارة إلى إسرائيل والمملكة العربية السعودية لحضور قمة دول مجلس التعاون الخليجى”. بعد ذلك أوضحت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان بيير أن «هذه الرحلة إلى إسرائيل والسعودية ستحدث عندما يحين وقتها وسوف تكون فى سياق أهداف مهمة للشعب الأمريكى فى منطقة الشرق الأوسط». وزادت توضيحاً بخصوص خلفيات اللقاء المحتمل للرئيس الأمريكى مع ولى العهد السعودى وقالت «إذا قرر (الرئيس) إن من مصلحة الولايات المتحدة التعامل مع زعيم أجنبى، وأن تعاملاً كهذا يمكن أن يأتى بنتائج، عندها سيقوم بذلك».
اللافت أنه بعد كل ذلك يأتى الرئيس الأمريكى ليفاقم من الغموض الذى يكتنف هذه الجولة. ففى لقاء صحفى له السبت الماضى بولاية نيومكسيكو قال بايدن إنه لم يقرر بعد أنه سيتوجه إلى السعودية. ورداً على سؤال من أحد المراسلين عما إذا كان سيستغل جولته الشرق الأوسطية للتوصل إلى اتفاق لتحسين العلاقات السعودية – الإسرائيلية قال بايدن «سنرى». ما هى أسباب كل هذا الارتباك؟ هل لم يحصل بايدن على وعود سعودية كافية بخصوص ما سيحمله من مطالب؟
الأمر المؤكد أن هذه الجولة، إن حدثت، ستكون جولة «اضطرارية» وليست «اختيارية» لسببين، أولهما: الحرب الروسية – الأوكرانية وحاجة بايدن إلى مساعدة السعودية فى تنظيم سوق النفط وعلى النحو الذى تريده واشنطن وبالتحديد إغراق سوق النفط وزيادة الإنتاج لخفض الأسعار التى بات ارتفاعها، بسبب التوقف الأوروبى عن استيراد النفط والغاز الروسى، يهدد الاستقرار السياسى ليس فقط فى الدول الأوروبية، بل وأيضاً الولايات المتحدة التى ارتفعت فيها أسعار البنزين إلى مستويات جنونية.
ثانيهما رغبة إسرائيل والقوى الأمريكية الداعمة لها داخل الولايات المتحدة بأن تعمل الإدارة الأمريكية على تحسين العلاقات السعودية – الإسرائيلية ضمن مسارات يأملها الإسرائيليون.
من هنا يأتى الارتباك الأمريكى بخصوص هذه الجولة الشرق أوسطية مع غياب إجابات قاطعة لكل ما يأمله بايدن فى هذه الجولة من أهداف ومصالح أمريكية لم تعد تتوافق مع تحولات جديدة فى مواقف وسياسات الحلفاء التقليديين أقرب إلى التمرد الخجل على السياسة الأمريكية.
نقلا عن الأهرام