رؤى متباينة:
اتجاهات الموقف الداخلي الأمريكي من إبرام اتفاق “تهدئة” مع إيران

رؤى متباينة:

اتجاهات الموقف الداخلي الأمريكي من إبرام اتفاق “تهدئة” مع إيران



تصاعدت حدة الجدل على الساحة الداخلية الأمريكية حول التقارير الجديدة التي كشفت عن إجراء مباحثات بين مسئولين إيرانيين وأمريكيين للوصول إلى اتفاق “تهدئة” يتضمن بنوداً نووية وإقليمية. فقد أشارت بعض الصحف الأمريكية، ومنها صحيفة “وول ستريت جورنال” في تقارير لها في ١٤ يونيو الجاري، إلى أن الولايات المتحدة وإيران استخدمتا بعثتيهما في منظمة الأمم المتحدة في نيويورك لبدء تلك المناقشات في ديسمبر الماضي. كما سافر مسئولون أمريكيون إلى سلطنة عمان ثلاث مرات على الأقل منذ ذلك الحين، لمناقشة الإفراج عن السجناء الأمريكيين الذين تحتجزهم طهران، وتقويض البرنامج النووي الإيراني المتنامي، وإنهاء تجميد بعض الأموال الإيرانية في الخارج.

مؤشرات عديدة

رغم نفى الإدارة الأمريكية أي جهود يقوم بها مسئولوها للتوصل إلى تفاهم غير رسمي مع إيران، فإن ثمة مؤشرات عديدة تؤكد أن هناك نقاشاً أمريكياً-إيرانياً للتوصل لمثل هذا الاتفاق، بعد توقف المباحثات غير المباشرة للعودة إلى الاتفاق النووي لعام ٢٠١٥. يتمثل أولها، في الإفراج عن أموال إيرانية مجمدة في العراق، فرغم تعمد مسئولي الإدارة الأمريكية تفسير أن السماح للعراق بتحويل ٢,٧٦ مليار دولار من مدفوعات الغاز والكهرباء المتراكمة إلى إيران-والتي تم تجميدها بسبب العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة على إيران-تنازل روتيني عن العقوبات، وأنه ليس الأول من نوعه وغير مرتبط بمفاوضات مع الأخيرة، فقد أفاد الجانب العراقي بأنه تم منح الموافقة الأمريكية خلال اجتماع بين وزيري الخارجية العراقي والأمريكي على هامش الاجتماع الوزاري للتحالف الدولي لهزيمة تنظيم “داعش” في الرياض في ٨ يونيو الجاري.

وينصرف ثانيها، إلى تأكيد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام لجنة العلاقات الخارجية والأمن في الكنيست، وفقاً لموقع “أكسيوس” في ١٣ يونيو الجاري، على أن إدارة جو بايدن أجرت محادثات غير مباشرة مع إيران بشأن “اتفاق صغير” أو “تفاهم” يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني. ويتعلق ثالثها، بإشارة المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي في خطاب ألقاه، في ١١ يونيو الجاري، إلى الانفتاح الإيراني على اتفاق مع الدول الغربية، بشرط أن تظل البنية التحتية النووية الإيرانية سليمة.

انقسام واضح

أثارت هذه المؤشرات في مجملها انقساماً داخل الولايات المتحدة حول تأييد أو رفض فرص التوصل لتفاهم مع إيران من شأنه تهدئة التوترات بينهما، وذلك للأسباب التالية:

1- معارضة تخفيف العقوبات بدون موافقة الكونجرس: يواصل النواب الجمهوريون توجيه تحذيرات إلى إدارة الرئيس بايدن من السعى إلى أي اتفاق مع إيران من شأنه تخفيف العقوبات دون موافقة الكونجرس، ومخالفة الإدارة الأمريكية شروط قانون مراجعة الاتفاق النووي الإيراني لعام ٢٠١٥، المدعوم من الجمهوريين والديمقراطيين لضمان إشراف الكونجرس على سياسة الولايات المتحدة فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني. فقد كتب رئيس لجنة الشئون الخارجية بمجلس النواب النائب الجمهوري مايكل ماكول، في ١٥ يونيو الجاري، رسالة إلى الرئيس بايدن حرص فيها على تأكيد أن القانون الأمريكي يتطلب تقديم أي اتفاق أو ترتيب أو تفاهم مع إيران إلى الكونجرس.

2- دفع إيران لتبني مزيد من السياسات المتشددة: يرفض عديد من المشرعين الأمريكيين أي تخفيف للعقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، خوفاً من استخدام طهران الأموال التي سيتم الافراج عنها في تقديم مزيد من الدعم العسكري لروسيا في حربها ضد أوكرانيا التي دخلت عامها الثاني، ودعم المليشيات الشيعية المسلحة التي نفذت بعض العمليات المسلحة ضد القواعد العسكرية الأمريكية والمتعاقدين الأمريكيين في العراق وسوريا، فضلاً عن تهديد استقرار منطقة الخليج العربي، وتأجيج الحروب بالوكالة في الشرق الأوسط، وتعزيز الجهود الإيرانية للسيطرة على المنطقة.

3- فرض قيود على البرنامج النووي الإيراني: بينما يرفض التيار الذي دعم قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي، في 8 مايو ٢٠١٨، إبرام الإدارة الأمريكية اتفاقاً نووياً آخر مع طهران، لأنه لن يكون في مصلحة الولايات المتحدة مثل خطة العمل الشاملة المشتركة التي تم التوصل إليها في 14 يوليو ٢٠١٥، يذهب تيار آخر إلى أن التفاهم الذي تسعى إدارة بايدن للتوصل إليه مع إيران من شأنه استعادة بعض القيود التي كانت مفروضة على إيران لمنعها من الحصول على سلاح نووي يهدد أمن واستقرار المنطقة بعد الإخفاقات المتعددة للمباحثات غير المباشرة للعودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة.

وفي رؤية هذا التيار، فإن ذلك من شأنه تقليص حدة الهواجس الإسرائيلية من تقدم البرنامج النووي الإيراني، ووقف الخطط العسكرية التي تعدها تل أبيب ضد طهران، وإن كان نتنياهو قد أبلغ لجنة العلاقات الخارجية والأمن في الكنيست بأن إسرائيل ستعارض التفاهم الأمريكي-الإيراني ولن تلتزم به. فضلاً عن أن مثل هذا التفاهم من شأنه منع حدوث سباق تسلح نووي في المنطقة، ووقف دعم إيران لوكلائها في المنطقة ودعم الحرب الروسية على أوكرانيا والإفراج عن مواطنين أمريكيين محتجزين لديها.

4- تعزيز موقع الرئيس بايدن قبل الانتخابات: يريد الرئيس بايدن-الساعي للفوز بفترة رئاسية ثانية في الانتخابات الرئاسية التي سوف تجرى في نوفمبر من العام المقبل-تجنب أي أزمة مع إيران قبل الانتخابات. ومع تعدد الأزمات الدولية والتوترات في أوكرانيا وتايوان التي تتقدم أجندة الإدارة الأمريكية راهناً، فإنها تسعى إلى تجنب حدوث تصعيد جديد في منطقة الشرق الأوسط، في وقت تقلل فيه الانخراط في أزمات المنطقة إلا في الحدود الدنيا، في ظل توجيه بوصلة الاهتمام الأمريكي من الشرق الأوسط إلى منطقة الإندو-باسيفيك.

محاولة أخيرة

تعهد الرئيس جو بايدن مع بداية وصوله إلى البيت الأبيض، بإحياء الاتفاق النووي الذي انسحبت منه إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، مقابل رفع قسم من العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، قبل أن يعلن في بداية نوفمبر الماضي “موت” الاتفاق بسبب استمرار الخلافات العالقة بين الطرفين وعدم قدرة المفاوضين على تسويتها. وتمثل محاولة الإدارة التوصل إلى اتفاق غير رسمي مع إيران المحاولة الدبلوماسية الأخيرة للرئيس بايدن التي تسعى فيها الإدارة إلى تهدئة حدة التوتر مع طهران. ولكن الجهود الدبلوماسية الأمريكية مع طهران ستكون محدودة بموجب شروط قانون مراجعة الاتفاق النووي الإيراني لعام ٢٠١٥. ولذلك، لا يمكن استبعاد أن تطلق الإدارة الأمريكية على أى صفقة محتملة مع إيران مصطلح “تفاهم” وليس “اتفاقاً” لتجنب مراجعة الكونجرس الأمريكي الذي يرفض أغلب مشرعيه رفع العقوبات المفروضة على إيران. ويمكن أن يقوم بايدن بتوسيع نطاق هذا التفاهم لاحقاً كأساس لمحادثات مستقبلية بشأن اتفاق نووي جديد بين الولايات المتحدة وإيران، على نحو يوحي بأن المنطقة قد تكون مقبلة على استحقاقات استراتيجية ربما لا تكون هينة.