إيران وفرملة التّقارب التّركي – الأسدي – الحائط العربي
إيران وفرملة التّقارب التّركي – الأسدي

إيران وفرملة التّقارب التّركي – الأسدي



خلال زيارته بيروت عبّر وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان عن ترحيب بلاده بالتقارب بين أنقرة ودمشق. قال: “نحن سعداء بالحوار واللقاءات” الجارية بينهما و”نعتقد أن هذا الحوار ينبغي أن ينعكس إيجابياً في مصلحة البلدين”. كان ذلك عملياً الموقف الأول الذي تبديه طهران بعد اجتماع وزراء الدفاع الثلاثة، الروسي والتركي والسوري، وكان الغياب الإيراني مثيراً للتساؤلات. ومع أن روسيا اعتادت وضع كل التحركات في إطار “مسار أستانا” الثلاثي، إلا أنها فضّلت حتى الآن بلورة التقارب التركي – الأسدي في سياق علاقاتها المتطوّرة مع تركيا التي أسدت لها خدمات ثمينة في مواجهتها العقوبات الغربية رداً على غزوها أوكرانيا.

الأكيد أن طهران لم تكن “سعيدة” البتة لتهميشها على هذا النحو، وكانت قد سارعت إلى إبلاغ دمشق عتبها محذّرة من أن يصير العتب غضباً. لذلك حصل اتصال هاتفي بين وزيري خارجية النظامين قبيل وصول معاون الوزير السوري أيمن سوسان إلى طهران لتقديم إيضاحات، أبرزها أن دمشق تعرّضت لضغط روسي، وكان واضحاً أن محادثاته جرت في أجواء متشنّجة غير مسبوقة، إذ بلغ الاستياء الإيراني حدّ اهتزاز الثقة برئيس النظام بشار الأسد، بحسب بعض المصادر، لأنه لم يتشاور مع طهران قبل إرسال وزير دفاعه إلى موسكو، مع افتراض أن الروس لم يسمحوا له بالتشاور. في المقابل، كان ولا يزال هناك استياء أسدي من إيران التي ترفض تقديم قروض مالية جديدة قبل أن تسدّد دمشق 30 في المئة على الأقل من قروض سابقة تفوق المليار دولار.

انتقل عبد اللهيان من بيروت إلى دمشق، وقبل وصوله كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد تحادث هاتفياً مع نظيره الإيراني إبراهيم رئيسي ورتّبا موعداً لوزيري الخارجية في موسكو، عشية محادثات مرتقبة لوزيري الخارجية التركي والأميركي. في الأثناء أيضاً كان المبعوث الخاص الروسي ألكسندر لافرنتييف قد قابل الأسد لترتيب الخطوة التالية من التقارب مع تركيا على مستوى وزراء الخارجية. وبعد هذا اللقاء نُشر تصريح للأسد يقول فيه إن المحادثات مع تركيا “تُبنى على أساسَين: إنهاء الاحتلال (التركي) لمناطق في الشمال، ووقف الدعم للإرهاب (أي لفصائل المعارضة السورية المسلّحة)”. وفُهم أن هذا الكلام صيغ بالتشاور مع طهران ولاسترضائها، إذ كرّره فيصل المقداد بعد لقائه نظيره عبد اللهيان قائلاً إنه “لا يمكن الحديث عن إعادة العلاقات الطبيعية مع تركيا من دون إزالة الاحتلال”. وعلى سبيل التوضيح، كان أُضيف أن دمشق “يجب أن تلمس تقدّماً في شأن مطالبها من خلال لجان المتابعة قبل الموافقة على لقاء وزراء الخارجية”.

كانت هذه المواقف متوقّعة من جانب النظام الذي سبق أن طرحها في مناسبات عدّة قبل أن تصبح “المصالحة” مع تركيا مطلباً بوتينياً يصعب رفضه، فالرئيس الروسي يرغب في مساعدة رجب طيب أردوغان للفوز في الانتخابات والبقاء في منصبه وللاستمرار في فتح المصارف التركية لمساعدة روسيا في التفافها على العقوبات. ولا تزال موسكو تعتبر تعديل اتفاق أضنة (1998) نقطة انطلاق للتوصّل إلى اتفاق أمني بين أنقرة ودمشق، ويُفترض أنها باتت مدركة الآن تعقيدات هذا الهدف، فالنظام الذي يطالب بـ”إنهاء الاحتلال” يصعب أن يوافق على مدّ المنطقة الأمنية التركية من عمق 5 كلم إلى 30 كلم. لكن مواقف النظام الأسدي لا تعكس مراهنته الدائمة على الحليف الإيراني فحسب، بل تقصّدت رفع السقف باكراً لإرباك أنقرة وهي تستعدّ لمحادثات صعبة بين أنطوني بلينكن ومولود تشاويش أوغلو.

لا تعتمد واشنطن استراتيجية محدّدة إزاء الأزمة السورية، لكنها حقّقت عملياً ما سبق للسفير جيمس جيفري أن اختصره بالقول إن “الهدف هو إغراق روسيا وإيران ونظام الأسد في المستنقع السوري”، ولا شك في أن تركيا تدرك ذلك لكن هل يريد الأميركيون إغراقها أيضاً؟ هذا يتوقف على مدى تورّطها مع روسيا. كانت واشنطن قد رفضت ولا تزال ترفض مبدئياً أي تطبيع مع الأسد الذي تستعد لمضاعفة التضييق عليه باعتباره “تاجر مخدرات” أسوةً بنورييغا وإسكوبار. ومع أنها لم تعلّق مباشرةً على خطوات تركيا وغيرها، إلا أنها ستراقب التطورات لتحدد موقفها في ضوء ما سيحصل على الأرض وما ستنخرط فيه تركيا ميدانياً، وبخاصة ما ستلتزمه اقتصادياً وما يمكن أن يشكّل توسّعاً في انتهاك العقوبات الغربية المفروضة على سوريا.

ثم إن الأميركيين بدأوا مساراً في شرق الفرات لاستباق الحوادث، فبعدما أدخلوا تعزيزات عسكرية جديدة وأعادوا تنشيط بعض القواعد (بينها مقر الفرقة 17) ذُكر أنهم يحاولون إدخال تعديلات على سيطرة القوات الكردية في تلك المنطقة، لزيادة مشاركة المكوّن العربي الذي يشكو من “هيمنة غير السوريين” على “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد). غير أن القوى العربية المحليّة تترقب الخطوات الأميركية بحذر وشك، فهذه ليست الأولى من نوعها وكل السوابق عمد الكرد إلى إفشالها. أما المسار الآخر الذي يثبت أن الأميركيين ليسوا في صدد ترك سوريا فيتمثّل في التطوير الحثيث لقاعدة التنف في الجنوب وللفصيل السوري الذي يتولّون تدريبه تحت اسم جديد هو “جيش سوريا الحرّة” وقائد جديد هو فريد القاسم كبديل من “مغاوير الثورة” بقيادة مهنّد الطلاع.

قد تكون إيران نجحت بسرعة في إبطاء التحرك الروسي – التركي وفرملة التقارب التركي – الأسدي من دون تعطيله، لكنها تريد رسم حدود للنفوذ التركي وعدم شرعنته باتفاق أضنة معدّلاً. ولعل أكثر ما يزعج إيران أن يشكل الدور التركي “عنصر توازن” (سنّي) مع نفوذها. فهي، مثلاً، ترفض عودة اللاجئين (وهو مطلب تركي أساسي) بعدما سيطرت على معظم مواطنهم وأنجزت متطلبات التغيير الديموغرافي من دمشق إلى حمص وحلب. وفي السياق نفسه أعادت إبراز “الفرقة الرابعة” (بقيادة ماهر الأسد) التابعة لها، سواء في مناطق الجنوب أم بالمطالبة بأن تكون مشرفة على المعابر مع تركيا. وهذا ما يفسّر التصعيد الأخير في الشمال الغربي، حيث شاركت القوات التركية في قصف قوات النظام.

يضاف أخيراً أن تظاهرات السوريين في الشمال الغربي، وإنْ اتخذت طابع السخط على الائتلاف السوري المعارض وحكومته الموقتة لصمتهما حيال التقارب المزمع بين أنقرة ودمشق، فإنه في جوهره غضب موجّه ضد تركيا التي باتت تعرف أن مصلحة أردوغان وحزبه في هذا التقارب لا بد من أن يتمّ في جانب كبير منه على حساب السوريين.

نقلا عن النهار العربي