الجدل والتوقّعات والتكهّنات سائدة في شأن اتفاق السعودية وإيران على استئناف علاقاتهما الدبلوماسية، وستبقى كذلك لفترة طويلة لأن التفاهمات بين الطرفين لا تزال سرّية أو مطروحة لـ “حوار” يُستكمل تباعاً. وهناك سبب آخر لإثارة التساؤلات يتعلّق بالدور الصيني، وما إذا كان “ضامناً” فعلاً أم “راعياً” أم مجرّد مسهّل تمكّن من حل عقدة أولى أفضت الى الاتفاق. كلٌّ من هذه الصفات تحدّد وظيفة معينة وليست هناك تجارب صينية معروفة يمكن القياس عليها، ثم إن “بيان بكين” خلا من أي نقاط قد تضيء على المعالم المستقبلية للحدث.
في الأيام التالية كان لا بدّ من رصد مواقف الدولتين لتقدير مدى عمق الاتفاق وجدّيته وأهميته. والراجح أنه سيُنضج نفسه بنفسه مع الوقت، من خلال خطوات “بناء الثقة”، ومع بدء تنفيذ فتح السفارتين وتوضيح أبعاد التعاون الأمني والتجاري وحدوده. لكن يُلاحظ في الفترة الراهنة “ارتياحٌ” قد يكون ظاهرياً فقط لدى “حلفاء” إيران ووكلائها، ولعله يعكس شروحاً وصلتهم من طهران ربما تكون مخاتلة أكثر منها يقينيةً، إلا أن ترجمتها الفورية توحي بأنهم تلقّوا ما يطمئنهم الى أوضاعهم، بمعنى أن شيئاً لن يتغيّر ولا داعي للقلق. في المقابل، لا يبدو “حلفاء” السعودية على الدرجة نفسها من “اليقين”، ويغلب الغموض على تصوّراتهم لما سيكون ولا يعرفون حقّاً إذا كانوا مدعوين أو لا إلى تغيير مقارباتهم السياسية لخصومهم المحليين.
لدى المواطنين الطبيعيين، سواء في العراق أم في سوريا أم في لبنان أم حتى في اليمن، بلبلة متفاوتة تجعلهم يتعاملون مع التقارب السعودي – الإيراني بذهنية صدّق أو لا تصدّق، أو بالأحرى صدِّق السعودية ولا تصدِّق إيران. فالأخيرة ربما تبني حساباتها على أن الأمر الواقع الذي أنشأته في الدول الأربع لا يمكن تغييره بين ليلة وضحاها أو بسحر ساحر، وبالتالي فإن أولوية أمن الخليج مقابل النفوذ الإيراني في المشرق قد تشكّل معادلة يمكن اللعب بها وعليها ويُحتمل أن تُرشّح للاستمرار والترويج أو حتى للبناء عليها، وبالتالي فإنها تفسر الى حدٍّ أن يقفز ناطق الخارجية الإيرانية الى القول إن حكومته تأمل باستعادة العلاقة مع مصر والبحرين. تتصرّف طهران على أن موافقة الرياض على “التطبيع” معها جاءت بمثابة استجابة لهدف استراتيجي تبنّته إيران بعدما تيقّنت بأنه لن يضطرّها لتنازلات جوهرية.
في الجانب الآخر، حرصت السعودية غداة “بيان بكين” على تكرار تلك العبارة المفتاحية الواردة فيه: “على أسس احترام سيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها” مع إضافة “حسن الجوار” كمبدأ عام ارتكز إليه الاتفاق. وزاد وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان أن السعودية “تتطلّع الى أن يعزز الاتفاق من أمن منطقة الخليج العربي واستقرارها” وهو ما يبدو أنه المبدأ الآخر المتفق عليه، أو هكذا يُفترض. وفي تأكيده أن الاستثمارات السعودية قد تدخل إيران “سريعاً جداً”، قال وزير المال السعودي محمد الجدعان خلال مؤتمر للقطاع المالي في الرياض إنه لا يتوقّع أي عوائق “طالما أن شروط أي اتفاق ستُحترم”. لكنه قال إن عودة العلاقات الدبلوماسية “لا تعني أننا حلفاء”، بل إنها “النمط المعتاد بالنسبة الى المملكة، علينا إقامتها مع الجميع”.
في السياق نفسه تحدثت مصادر الجانبين عمّا يعني الاتفاق وما لا يعنيه، وكان الوزير بن فرحان أول من قال إنه “لا يعني أننا حللنا كل الخلافات”، فيما نقلت “رويترز” عن مصدر إيراني قريب من صانعي القرار أن الاتفاق “لا يعني أنه لن تكون هناك مشاكل أو صراعات بين طهران والرياض، بل يعني أن ما يحدث في المستقبل سيكون تحت السيطرة”. وما دام بن فرحان شدّد أكثر من مرّة، قبل الاتفاق وبعده، على الدعم السعودي للسلام في اليمن وللجهود الأممية الساعية الى وقف كامل ودائم لإطلاق النار وبدء العملية السياسية بين الحكومة اليمنية والحوثيين، فهل يشكّل أمن الخليج العربي وإنهاء الحرب في اليمن إطاراً جيو-سياسياً لـ “اتفاق بكين”؟ لم ترد في المواقف الإيرانية أصداء مباشرة لذلك بل عبارات عن تعاطٍ ايجابي مع الأمم المتحدة في شأن اليمن، ما قد يكون كافياً، أما أمن منطقة الخليج واستقرارها فلا شك أنهما أكثر اتساعاً وتعقيداً بسبب تداخلهما مع الأهداف والمصالح الدولية، ولا سيما الأميركية.
من الواضح أن الجانبين لا يرغبان في التطرق حالياً الى أوضاع العراق وسوريا ولبنان في ضوء “اتفاق بكين”، وهي دول ينطبق عليها بقوة مبدأ “عدم التدخل”، لكنهما يوحيان بأنها ملفات متروكة لمرحلة لاحقة قد تقرب أو تبعد بحسب وتيرة التقدّم في العلاقات الثنائية وأمن الخليج، وفي هذا السياق يأتي اليمن في الأولويات. لكلٍ من تلك الملفات تعقيداته، لكن أزمة لبنان بالغة الإلحاح بسبب الفراغ الحالي في منصب رئاسة الجمهورية وإصرار “حزب إيران/ حزب الله” على أن يكون الرئيس المقبل حليفاً/ تابعاً له، في حين أن الدول المدعوة الى المساهمة في التعافي الاقتصادي للبنان، لا سيما السعودية، وضعت للرئيس الإصلاحي المنشود مواصفات لا تنطبق على أي مرشح يتبنّاه ذلك “الحزب”. لذلك يكثر التساؤل عن صيغة سعودية – إيرانية يمكن أن تفكّ عقدة الرئاسة، لكن أي حل “توافقي” يتطلّب تنازلات متبادلة، فمّن يتنازل لمَن؟
لحظة إعلان “اتفاق بكين” كان وزير خارجية إيران حسين أمير عبداللهيان يجالس بشار الأسد وينقل إليه توصيات الملالي للمرحلة المقبلة، ويبدو أن أهمها ما أظهره الأسد من تشدّد حيال تركيا بل أيضاً حيال الرئيس الروسي الذي يراهن على رجب طيب أردوغان وكان يريد الإسراع في تطبيع العلاقة بين أنقرة ونظام دمشق. نقل بعض المصادر أن طهران وعدت الأسد بأن اتفاقها مع الرياض سينعكس ايجاباً على وضع النظام (ومن ذلك عودة سوريا الى مقعدها في الجامعة العربية وحصولها على مساعدات خليجية) ونصحته بكيل المديح للسعودية مقابل تأجيل أي اتفاق مع تركيا، من قبيل أن دمشق لا تريد إعطاء اردوغان ورقة انتخابية “رابحة” ضد خصومه في المعارضة التركية.
ذكرى مرور عقدين على الغزو والاحتلال الأميركيين للعراق غرقت في مجرى الحدث السعودي – الإيراني، مع أنها كانت تستحق وقفة مراجعة طويلة. فالعراق يمثّل حالياً النموذج الأهم لنمط التدخّل والتسلّط الذي يرى فيه الإيرانيون ضماناً لإدامة تدخّلهم الحاصل في سوريا ولبنان. يتساءل العراقيون عمّا إذا كان التقارب السعودي – الإيراني يمكن أن يعزز دولتهم ويخلّصهم من حكم الميليشيات، يأملون بهذا التغيير ولا يرون له أثراً، ولا حتى في التمنيّات.
نقلا عن النهار العربي