أظهرت بعض التنظيمات الإرهابية في المنطقة العربية قدراً من التكيف مع التحولات الميدانية، وواصلت بناء قدراتها بعد فترات تراجع للنشاط العملياتي، وتبرز عدد من الاتجاهات المحتملة خلال عام 2023، ترجح استمرار النشاط العملياتي لأفرع تنظيمي “القاعدة” و”داعش”، بما يستدعى تطوير استراتيجية مكافحة الإرهاب، لتتناسب مع التحولات الميدانية للتنظيمات الإرهابية، ومواصلة الضغط على تلك التنظيمات لتحجيم نشاطها على المستوى العملياتي والتمويلي واللوجيستي.
رغم الضربات التي تلقتها التنظيمات الإرهابية “الجهادية” في المنطقة العربية، وتحديداً تنظيم “داعش”، بداية من عام 2017، بعد فقدان السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي في العراق وسوريا، بفعل عمليات مكافحة الإرهاب على مستوى الدولتين، إلا أن هذه التنظيمات حرصت على التكيف مع التحولات الميدانية في بعض الدول العربية.
ويمكن القول إن ثمة مجموعة من العوامل التي تدفع باتجاه استمرار نشاط التنظيمات الإرهابية، في ضوء تصاعد حدة الصراعات في بعض الدول، إضافة إلى الأزمات الاقتصادية على وقع تداعيات تفشي جائحة كورونا، وتأثيرات الحرب الروسية-الأوكرانية، وتداعيات الهشاشة الأمنية في بعض الدول.
مسارات عديدة
يمكن تحديد عدد من الاتجاهات الرئيسية المحتملة للنشاط الإرهابي خلال عام 2023، من خلال طبيعة نشاط التنظيمات الإرهابية وحدود انتشارها ومحاولة بناء قدراتها، وأبرزها ما يلي:
1- سعى “داعش” لتفعيل خلاياه خارج “القيادة المركزية”: يتضح من خلال بعض النشاط الذي أعلنه عنه تنظيم “داعش” عبر مؤسساته الإعلامية، أن ثمة اتجاهاً بدأ يتبلور خلال عام 2022، يتعلق بإعادة تشكيل خلايا للتنظيم في الدول التي شهدت تراجعاً لحضوره خلال السنوات القليلة الماضية، وتحديداً عقب تراجع السيطرة على مناطق واسعة في نطاق “القيادة المركزية” في العراق وسوريا، عبر خلايا تقوم بتنفيذ عمليات خاطفة، ومن أمثلة تلك الدول لبنان وتونس. وقد أعلن التنظيم بالفعل، خلال شهر ديسمبر 2022، مبايعة عناصر في الدولتين له. وربما يسعى التنظيم خلال عام 2023 إلى توسيع دور هذه الخلايا، اعتماداً على الأوضاع الاقتصادية في الدولتين، واستقطاب عناصر جديدة، خاصة مع الكشف عن سفر العشرات من الشباب اللبنانيين إلى الخارج للانضمام إليه.
ويدعم محاولات تنظيم “داعش” تنشيط خلاياه في بعض الدول، الإعلان المتكرر من قبل أجهزة أمنية لدول عربية، من بينها لبنان وتونس، إضافة إلى المغرب، عن تفكيك خلايا إرهابية تتبع للتنظيم، بما يشير إلى اهتمام الأخير بإعادة تشكيل خلايا في تلك الدول.
2- تحولات هيكلية داخل تنظيم “داعش”: يحتمل اتجاه تنظيم “داعش” إلى إجراء عملية إعادة هيكلة داخلية، وتحديداً على مستوى “القيادة المركزية” في العراق وسوريا، على خلفية استمرار سقوط قياداته على مستوى الصف الأول مثل مقتل زعيمه أبو الحسن الهاشمي القرشي، والذي يُعتقد أنه قتل خلال عملية ملاحقة لعناصر التنظيم عرضياً في محافظة درعا السورية في منتصف شهر أكتوبر الماضي، إضافة إلى اعتقال عدد كبير من قياداته خلال العامين الماضيين، بفعل عمليات أمنية ذات طابع استخباراتي، سواء من قبل القوات العراقية، أو عناصر سوريا الديمقراطية “قسد” بدعم من القوات الأمريكية المشاركة ضمن التحالف الدولي لمواجهة “داعش”.
وقد يتزايد هذا الاتجاه داخل تنظيم “داعش” بفعل محاولة ملء الفراغ في القيادة، لتصعيد قيادات جديدة لمستويات أعلى في الهيكل التنظيمي، في محاولة لبناء القدرات، لزيادة النشاط العملياتي في الدولتين خلال عام 2023.
3- احتمالات توسيع نطاق المواجهات في سوريا: يمكن أن تؤدي التحولات المستمرة بين الأطراف الفاعلة على الساحة السورية، وإرساء تفاهمات جديدة على مستوى تحقيق مصالح كل طرف، إلى فتح جبهة مواجهات في سوريا، وتحديداً بين بعض التنظيمات الإرهابية مثل “هيئة تحرير الشام”، وقوات النظام السوري، خاصة مع إقدام “الهيئة” على تنفيذ عمليات خارج مناطق سيطرتها لاستهداف القوات السورية، في ظل محاولات تركية للتقارب مع النظام السوري، وتحقيق تفاهمات فيما يتعلق بتسوية تضمن مصالح تركيا بزيادة المنطقة الآمنة في العمق السوري من خط الحدود بنحو 30 كيلو متر، بما يعني تحييد النظام السوري عن أي عملة عسكرية تركية ضد الأكراد.
ولكن هذا الاحتمال يرتبط بحدود التفاهمات بين تركيا والنظام السوري وروسيا وإيران خلال الفترة المقبلة، إضافة إلى قدرة أنقرة على السيطرة على “تحرير الشام” وعدد من الفصائل المسلحة الأخرى، في مناطق الشمال السوري وتحديداً في محافظة إدلب، إذ أن تركيا تُعد راعياً لخطوط التماس مع روسيا، وتمتلك وسائل للضغط على “تحرير الشام”، ولكن الوضع مرهون أيضاً بالحد الأدنى من التسوية التي يمكن أن تقبلها “تحرير الشام” وفصائل مسلحة أخرى، قريبة منها.
4- تزايد النشاط الإعلامي لتنظيم “القاعدة”: بالنظر إلى زيادة معدلات النشاط الإعلامي لتنظيم “القاعدة”،على مستوى “القيادة المركزية” التي تتمركز تاريخياً في نطاق دولتي أفغانستان وباكستان،عقب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان عام 2021، وسيطرة حركة “طالبان” على الحكم، وما تبع ذلك من نشر إصدارات خاصة بزعيم التنظيم أيمن الظواهري -الذي أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن مقتله في كابل نهاية يوليو الماضي-، فإنه يتوقع نشاط إعلامي أكبر لتنظيم “القاعدة” خلال عام 2023. ويتضح أن النشاط الإعلامي لتنظيم “القاعدة” لا يتوقف على مؤسسات الإعلام المركزية مثل مؤسسة “السحاب”، وإنما امتد إلى نشاط موازٍ للأفرع المختلفة خلال الأشهر القليلة الماضية، مثل مؤسسة “الأندلس” التابعة لفرع “القاعدة في المغرب الإسلامي”، ومؤسسة “الزلاقة” التابعة لجماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” في منطقة الساحل الأفريقي، إضافة إلى مؤسسة “الكتائب” التابعة لحركة “الشباب” الصومالية، ومؤسسة “الملاحم” التابعة لفرع “القاعدة في اليمن”.
5- محاولة توظيف القضية الفلسطينية: تمثل القضية الفلسطينية إحدى القضايا الرئيسية التي تسعى التنظيمات الإرهابية إلى توظيفها في الخطاب الدعائي لأذرعها الإعلامية منذ بروز تنظيمات “الجهاد العالمي” بتأسيس تنظيم “القاعدة”، وعلى نفس النهج سار تنظيم “داعش”، وإن كان التركيز على القضية الفلسطينية أقل من تنظيم “القاعدة”، وتستهدف التنظيمات الإرهابية عبر استغلال تلك القضية استقطاب عناصر جديدة سواء من الداخل أو في الدول الأخرى، اعتماداً على استخدام خطاب عاطفي حماسي.
6- استمرار تداعيات مقتل الظواهري: رغم عدم إعلان تنظيم “القاعدة” مقتل زعيمه أو نفي الرواية الأمريكية التي جاءت على لسان الرئيس جو بايدن،وفي حال صحة مقتل الظواهري، فإنه من المحتملأن يشهد التنظيم نشاطاً ليس على المستوى العملياتي في نطاق “القيادة المركزية”، وإنما الاتجاه إلى إعادة هيكلة تنظيمية، بعد أن تراجع التنظيم أمام تنظيم “داعش” منذ عام 2014 في أكثر من منطقة. ولكن يبقى أن إعادة الهيكلة وتنشط التنظيم لاستعادة السيطرة على مشهد “الجهاد العالمي” يرتبط بعدة عوامل، منها شخصية القيادة الجديدة التي ستخلف الظواهري، وحدود القدرة ومدى سماح حركة “طالبان” بنشاط لتنظيم “القاعدة” في ظل الالتزام مع الولايات المتحدة بعدم السماح بنشاط التنظيمات الإرهابية على الأراضي الأفغانية. ولكن يمثل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان بيئة مواتية لتعزيز تنظيم “القاعدة” شبكة علاقاته في آسيا بشكل عام، وفي بؤر الصراعات بشكل خاص، كمحاولة تنشيط فرع التنظيم في “شبه القارة الهندية”.
حدود التحول
وأخيراً، من غير المتوقع حدوث تحولات شديدة في النشاط الإرهابي صعوداً بصورة ملحوظة خلال عام 2023، في ضوء استمرار جهود مكافحة الإرهاب، مع ضرورة استمرار دفع تلك الجهود، وتطويرها لمواجهة التحولات الميدانية للتنظيمات الإرهابية خلال عام 2023، لإبقاء تلك التنظيمات تحت ضغط العمليات المستمرة، لمنعها من بناء القدرات العملياتية أو التمويلية، بصورة تسمح بزيادة النشاط الإرهابي، وتعزيز نفوذها. وفي سياق مكافحة الإرهاب، يتوقع استمرار النهج الأمريكي بالتعاون مع “قسد” على مستوى الساحة السورية، في تفكيك خلايا تنظيم “داعش”، من خلال عمليات إنزال جوي لاعتقال بعض قيادات التنظيم الفاعلة في الدعم اللوجيستي والعملياتي والتمويلي.