مقاربات مختلفة:
إلى أين تتجه مشروعات تسوية الأزمة اليمنية؟

مقاربات مختلفة:

إلى أين تتجه مشروعات تسوية الأزمة اليمنية؟



قبيل حلول الذكري السابعة لإطلاق عاصفة الحزم في اليمن ( 25مارس 2015 ) طرحت السعودية مبادرة جديدة لوقف الحرب في اليمن التي دخلت عامها السابع، لكن المليشيا الحوثية رفضت المبادرة دون رفض عملية التفاوض من حيث المبدأ، حيث تشهد العاصمة العمانية مسقط مباحثات مستمرة بين وفد الميليشيا التفاوضي والمبعوثيين الأمريكي “تيموثي ليندر كينج”، والأممي “مارتن جريفيث” بهدف مواصلة جهود الوساطة الدولية لإنهاء الحرب في اليمن، بعد أن أخذت تداعيات الحرب هناك أبعاد دولية منها التهديدات المتنامية لحركة الملاحة الدولية على المسرح البحري لليمن، وتهديد مصادر الطاقة في الخليج في ظل استمرار الهجمات التي تتعرض لها بنية النفط السعودية، فضلاً عن تدهور الوضع الانساني في اليمن الذي يشهد أسوأ كارثة انسانية على مستوي العالم. وفي هكذا سياق، طرحت تساؤلات جوهرية حول مسارات التسوية المحتملة للصراع اليمني في ظل تعدد مشروعات التسوية.

الوساطة المتعددة

هناك متغير جوهري فيما يتعلق بآلية الوساطة، التي أصبحت مزدوجة بين الولايات المتحدة والأمم المتحدة، واللافت في هذا السياق أن كافة التحركات الحالية يقوم بها المبعوثان الأمريكي والأممي، أخرها مؤتمر برلين يوم 12 ابريل 2021 الذي شارك فيه وزير الخارجية الألماني “هايكو ماس” مع المبعوثين، وتناول تفصيلاً تطورات المباحثات الجارية بعد طرح المبادرة السعودية لإنهاء الحرب.

ويحمل هذا السياق إشكالية تتعلق بطبيعة الحل المطروح لإنهاء الحرب في اليمن حيث تعيد المبادرة السعودية طرح ما يُعرف بـ “الحل الخليجي”، بينما كان من المتصور أن عملية الوساطة الأمريكية تهدف بالأساس إلى تبني “الحل الاقليمي” للتسوية على أساس ربط جهود المباحثات الخاصة بإحياء عودة واشنطن إلى مجموعة العمل المشتركة (5+1)، فضلاً عن شرط تقليص التمدد الايراني في الاقليم.

مبدئياً، يصعب القول أن هناك اطار واضح للتسوية، سواء على مستوي الطرح الخليجي، أو المبادرة السعودية على وجه التحديد، أو الحل الإقليمي المتصور في إطار التحركات الامريكية والدولية، لكن من الناحية الواقعية يمكن القول أن هناك خريطة طريق مطروحة لإنهاء الحرب في اليمن، صاغها المبعوث الاممي مارتن جريفيث في افادته الأخيرة أمام مجلس الأمن (مارس 2021) تحت عنوان “اسكات البنادق” وهي واضحة في صلب المبادرة السعودية، التي تبدو أشبه بهدنه لها استحقاقاتها المتمثلة في عملية وقف اطلاق النار، والاتفاق على إطلاق مسار سياسي للتسوية، مع تحفيف القيود التي يفترضها التحالف على الحوثين، لاسيما المفروضة على الاجواء البحرية والجوية، مقابل افساح الطريق للجهود الانسانية.

الأطر المتنافسة

حينما يتعلق الأمر بأطر عملية التسوية، يمكن القول إن هناك ثلاث مقاربات مطروحة للتسوية أصبحت واضحة الملامح، وهي مختلفة ومتعارضة وكل منها يحظى بهامش فرص وكثير من التحديات، وهي كالاتي:

1- المقاربة السعودية: ويستند ذلك بالأساس إلى القاعدة الحاكمة للرؤية السعودية والتي تتمثل في مبدأ ” عروبة اليمن ” الذي لا يقبل بتحوله لساحة للنفوذ الايراني وبالتالي استكمال التجربة الاقليمية للتمدد الايراني وتجلياته في لبنان ثم العراق وسوريا، حيث تسعى إيران، بشكل أو بآخر، إلى تطويق الخليج جيوسياسياً بوكلائها من عشرات الميليشيات المنتشرة في تلك الدول، والتي أصبح تأثيرها وميزانها العسكري يفوق الميزان العسكري للجيوش في تلك الدول. 

وفي السابق شكل الحل الخليجي مفتاحاً لتسوية الأزمات اليمنية، فالمبادرة الخليجية (ابريل 2011) حسمت أزمة السلطة، التي جري نقلها من الرئيس السابق “علي عبد الله صالح” إلى نائبه آنذاك والرئيس الحالي عبد ربه منصور هادي، مقابل ضمانات الحصانة التي مُنحت لصالح، ووضعت خريطة طريق انتقالية شهدت استفتاء على الدستور وانتخابات الرئاسية. كذلك فى الصراع الجنوبي بين الشرعية والمجلس الانتقالي، فقد وضع “اعلان الرياض” حداً للأزمة الجنوبية التي اندلعت في السنوات الماضية 2019 – 2020، وبالتالي يمكن اعادة الاعتبار للحل الخليجي.

لكن في المقابل هناك تقديرات تري أن فرص العودة للحل الخليجي محدودة إن لم تكن معدومة، بعد أن أصبحت إيران طرفاً في المعادلة اليمنية منذ اليوم الأول للانقلاب الحوثي على الشرعية، فعلى سبيل المثال، أفشلت المليشيا الحوثية “اتفاق السلم والشراكة” الذي طرحته الرياض في اطار المبادرة السعودية، وحتي المبادرات التي طرحت خارج الرياض جرى افشالها أيضاً من الجانب الحوثي بدعم ايراني، كما جري في مفاوضات الكويت 2016 والتي وضعت اطاراً شاملاً للتسوية، ووفقاً للمبعوث الأممي السابق “اسماعيل ولد الشيخ” شكلت أرضية مشتركة لكافة الاطراف لكن انسحبت الميليشيا الحوثية عند توقيعها بقرار ايراني.

ربما أصبح الأمر أكثر تعقيداً في ضوء الانخراط الايراني المباشر في اليمن، والوصاية على القرار الحوثي عبر المندوب الايراني في صنعاء “حسن إيرلو”، وكان من اللافت أن “إيرلو” أعلن رفض المبادرة السعودية قبل صدور أي موقف حوثي رسمي أو غير رسمي، بما فيه موقف زعيم المليشا الذي تم اعلانه بعد أربعة ايام من إعلان “إيرلو”.

2- المقاربة الإيرانية: بالنسبة لإيران، يأخذ “الحل الاقليمي” أكثر من بعد، فإيران اعترضت على ادماج ورقة الوكلاء أو التمدد الاقليمي في إطار تسوية الملف النووي. وبالتالي ستواصل نهجها في استمرار عملية التغلغل في اليمن، كذلك من المتصور أن طهران ترى أن المليشيا الحوثية هي وكيل مميز، فبخلاف الوكلاء الاخرين في العراق ولبنان وسوريا، فإن المليشيا الحوثية تبسط نفوذها على ما يقارب ثلث مساحة البلاد، كذلك لاعتبارات جيوسترايتجية فإن ترحيل إيران خطوط (الدفاع / الهجوم) من مضيق هرمز إلى بحر عمان وبحر العرب وحتى باب المندب يزيد من قوة أوراق الضغط الاقليمي والدولي، وهو ما ظهر في حرب السفن مع اسرائيل من جهة، ومن جهة أخري تهديدها للملاحة الدولية.

لكن فيما يتعلق بإطار التسوية، فالمشروع الايراني – الحوثي، يختلف تماماً عن المقاربة السعودية التي تسعى إلى اشراك الحوثين في السلطة، من خلال التكريس لفكرة الهيمنة على السلطة في إطار مشروع الاقاليم، فقد نقلت تقارير يمنية عن إيرلو تشديده على الحوثيين حسم معركة “مأرب” قبل إطلاق عملية التفاوض، حتى يمكن التفاوض وفقاً لموازين القوي وخرائط السيطرة والنفوذ على الأرض. كذلك فإن الشروط التي وضعها “إيرلو” تعقيباً على المبادرة السعودية كاشفة عن المشروع الايراني (فهو يطلب انهاء أي دور عسكري خليجي، بالإضافة إلى انسحاب القوات المشتركة لصالح الحوثين) وتفريغ الساحة تماماً لصالح هيمنة المشروع الحوثي المدعوم ايرانياً.

وجاءت تصريحات زعيم المليشيا الحوثية، في الذكري السادسة للحرب لتسلط الضوء بشكل أكثر تفصيلاً عن طبيعة هذا المشروع في إطار مقاربة “الحل الخليجي” كرد فعل على المبادرة السعودية، حيث استدعي بشكل لافت ” اتفاق الطائف”، الذي أنهي الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت نحو 15 عاماً تقريبا ما بين منتصف السبعينيات وحتى بداية التسعينيات، لكن الاستدعاء لم يكن للتدليل على إمكانية استنساخ النموذج وانما لانتقاد فكرة ” الحل الخليجي” في اتفاق الطائف وأنه غير وارد في الحالة اليمنية. كما يلمح إلى أن مشروعه يتجاوز مشروع “حزب الله اللبناني” على اعتبار أن الكثير من المراقبين يعتبرون أن الحوثي يسعي إلى محاكاة “حزب الله” اللبناني.

لكن هناك تحديات عديدة تواجه هذا المشروع، منها أن تمريره يحتاج الى صيغة تسوية في إطار “الحل الاقليمي” وهو سياق مستحيل، أن تقبل الرياض أو أغلبية دول الاقليم بدولة طائفية في اليمن، كذلك فإن الاستحقاق الجيوسياسي لهذا المشروع مهدد، حيث ربطته طهران والمليشيا بحسم معركة مأرب وهو سياق يمكن فهمه في إطار التمدد على حدود جغرافيا الدولة الامامية المتوكلية، ولكن من الناحية العسكرية لا يزال هناك صعوبات في حسم هذه المعركة، خاصة وأن كلا من التحالف والقوات المشتركة يدركان تبعات فقدان هذه الجبهة. ويضاعفان من قدرات المواجهة عليها، بالإضافة الى موقف القوي الدولية التي ترى أن الكلفة البشرية والانسانية عموماً لمعركة مأرب تفاقم من الكارثة اليمنية وفقاً لإفادة المبعوث الأممي.

3- المقاربة الأمريكية: وترتبط هذه المقاربة بالخطاب السياسي الأمريكي المتعلق بالأزمة اليمنية بشكل عام والذي يهدف إلى وضع حد للتهديدات التي تشكلها الحرب على المصالح الامريكية ومصالح الحلفاء الاقليميين، بالإضافة إلى تحسين الأوضاع الإنسانية في البلاد، بغض النظر عن طبيعة التسوية التي يمكن طرحها في مرحلة لاحقة، لكن يمكن أولاً وضع المبادئ التي يمكن الانطلاق منها للتسوية؛ فالعامل الحاسم بالنسبة للولايات المتحدة وفق ما ظهر في لقاء برلين هذا الأسبوع هو “قرار وقف إطلاق النار أولاً” على غرار الوضع الليبي، ومن ثم فلا يوجد مشروع أمريكي محدد بصيغة معينة، لذا أسرعت واشنطن إلى دعم المبادرة السعودية واعتبرتها نقطة للبدء في مباحثات التسوية، وحتي مع رفضها حوثياً، يواصل المبعوث الأمريكي تطويرها بشكل تكتيكي للوصول الى صيغة تسمح بوقف اطلاق النار.

ومن المتصور أن هذه المقاربة تواجه تحديات عديدة، من منظور تعقيدات المشروع الحوثي- الايراني، كما أن للحالة اليمنية خصوصياتها لاسيما في إطار البعدين التاريخي والايديولوجي وكلاهما حاكم تاريخياً في أي صراع شهده اليمن وفي أي تسوية انهت تلك الصراعات. كذلك من المتصور أن حدوث انفراجه متدرجة وبشكل بطيء في المباحثات الامريكية مع الحوثين من جولة لأخري لا يعني أن هناك متغير في موقف الحركة باتجاه عملية التسوية، أو المفاوض الأمريكي، وإنما استجابة موازية للتحرك في الملف الايراني، وهو ما يبدو من مستوي التصعيد العسكري الحوثي، الذي يزيد من التصعيد على الجبهة الداخلية مقابل تراجعه نسبياً على الجبهة الخارجية.

كذلك فإن عدم وجود أوراق ضغط على الحوثين يسهم في احباط تلك الجهود، في تقدير الكثير من المراقبين أن الادارة الحالية تخلت عن ورقة ضغط أساسية وهي إنهاء تصنيف الحوثين كمليشيا ارهابية بلا مقابل حقيقي، وكان تصور الادارة أن هذا السياق يمكن أن يمثل حافز لتشجيع الحوثيين على الانفتاح على واشنطن من جهة وعملية التسوية من جهة أخري، وبالتالي سيبقى فقط أن أي تقدم هو انعكاس لمؤشر تطور العلاقة الايرانية الامريكية في المباحثات الجارية في فيينا.

مؤشرات رئيسية

تأسيساً على ما سبق، يمكن استخلاص بعض المؤشرات الرئيسية من المقاربات الثلاثة لتسوية الصراع، وذلك على النحو الآتي:

1) هناك معركة مسلحة بحاجة إلى الحسم أولاً قبل الانخراط الجدي في أي مفاوضات من الجانب الحوثي، وهي معركة “مأرب” التي ستحدد مصير كافة المشروعات المطروحة، وهي واحدة من أصعب المعارك التي يخوضها الطرفان، لكن جماعة الحوثي تتبع نهجها السابق في معارك ما قبل سقوط صنعاء، وهو تكتيكك القضم المتدرج وسياسة النفس الطويل لإنهاك الخصم، وفي المقابل فإن القوات المشتركة لا تزال في موقف دفاعي أقل منه هجومي بعد مرحلة من التقدم لاستعادة بعض مواقعها. وبالتالي فالمتصور أن هناك مسار طويل من المباحثات قبل الوصول إلى طاولة التفاوض، التي يعتقد أن الوصول إليها لن يكون قبل حسم معركة مأرب المصيرية.

2) ليس هناك ما يمكن تسميته بالحل الاقليمي أو الدولي للأزمة اليمنية، وإنما هناك تفاعلات نشطة لا تزال في طور التشكل لا يزال من المبكر معرفة مساراتها بالنظر لتعقيدات الحالة اليمنية، ويمثل الانخراط الأمريكي بشكله الحالي المنعطف الرئيسي والأكثر تأثيراً في مسار هذه التفاعلات.

3) لا يمتلك أي طرف رؤية شاملة أو متكاملة للحل، وربما يمكن القول إن إطار عملية التسوية في حد ذاتها لا تشكل أولوية مرحلية بشكل جوهري، وإنما الأولوية فى المرحلة الراهنة للخروج من مأزق الحرب. وكل ما يطرح من مبادرات هو اجراءات تكتيكية تهدف إلى الوصل لعملية وقف إطلاق النار، وما يتداول هو عبارة عن صفقة من ثلاث محاور (تخفيف القيود وفتح الاجواء، وإفساح الطريق لمجال الاغاثة الانسانية، مقابل وقف الحرب).  4) ربما تكون المقاربة الامريكية للتسوية هي الأوفر حظاً رغم بعض التحديات التي تعترضها، بالنظر إلى كونها الاكثر تحرراً من المرجعيات، لكن في أفضل السيناريوهات يمكن للجانب الأمريكي التوصل لهدنة على المدى القريب أو المتوسط في اليمن لأسباب عديدة، قد يكون منها تقدم المباحثات مع إيران، أو منح فرصة للحوثين لالتقاط الأنفاس في الحرب، أو تحصيل مكاسب عبر الطرق التفاوضية، لكنها لا تعني في الوقت ذاته نهاية الحرب وبداية مشروع التسوية.