فرضت سنوات الخصومة بين السعودية وإيران تصاعداً واضحاً في التوتر الإعلامي، وانقطعت العلاقات السياسية والدبلوماسية، لكن الحكومتين تمكنتا من تجنب الانزلاق نحو مواجهة مسلحة مباشرة وتحكمتا في المسارات، فبقيت آثار القطيعة خارج حدودهما. وتسبب غياب الحوار المباشر بينهما في إنتاج اضطرابات ونزاعات مسلحة في المنطقة ما زالت مخيمة على أجوائها في سوريا ولبنان واليمن والعراق.
هنا لابد من التذكير بأن الرياض لم تكن مبادرة أو راغبة في قطع العلاقات الدبلوماسية إلا بعد سنوات من الصبر الطويل على تدخلات إيرانية في قضايا محض داخلية، كما أن طهران لم تتوقف عن تمويل وتسليح وتقديم الدعم السياسي والإعلامي إلى جماعات كثيرة في أكثر من بلد عربي من المحيط إلى الخليج. وكانت أكثر صور فجاجة وخروجاً عن المألوف هو تصور مؤسسة الحكم في إيران بأنها مسؤولة عن كل إنسان ينتمي إلى المذهب الشيعي في أي بلد، وهو مبدأ تمارسه إسرائيل مع اليهود في كل أنحاء العالم.
جاء بيان بكين في 10 مارس (آذار) الحالي مثيراً لقلق بعضهم، وذلك لأن الخلاف السعودي – الإيراني كان مربحاً للمتعصبين مذهبياً في العالم الإسلامي، ووجدوا فيه فرصة لإشعال المنطقة بنيران الصراع وتحويلها إلى ميادين من الحروب اليومية حول صحة الروايات القديمة، وصار جميعهم منهمكين في نبش القبور وتحديث التاريخ ليناسب توجهاتهم، وانشغلوا في تأكيد صحة ما توصلوا إليه منطلقين من عصبية لهذا المذهب أو ذاك. واعتبر هؤلاء أن تجميد التوتر بين طهران والرياض سيحجب عنهم وسائل كثيرة كانت تفيد توجهاتهم المتطرفة مذهبياً وسياسياً، كما أنهم أضحوا يتعمدون التركيز على المخاطر التي ستواجهها السعودية والإقليم جراء تحسن العلاقات أو حتى وقف تدهورها، وما سينجم عن ذلك من تهديدات أمنية عليها.
من ناحية أخرى رأى كثيرون أن البدء في ترميم الجسور التي انقطعت طوال السنوات الماضية يعد خطوة مهمة جداً يجب السعي إلى ثبيتها، لأن المكاسب السياسية والاقتصادية التي ستعود على الجميع، في حال التزمت إيران تحديداً، ستغير من وجه المنطقة التي انشغلت بهذا الخلاف، الذي ما كان من الضروري أن يتصدر هموم عواصم المنطقة ويشغلها عن قضاياها التنموية. كما أن الإنفاق العسكري الذي كان يستحوذ على حصة كبيرة من موازناتها، كان مصدره القلق من الآخر ولتأمين مصالح كل دولة.
من المؤكد أن بيان بكين خطوة في مسار طويل لإعادة الثقة بين المملكة وإيران، وسيكون من غير المعقول توقع إزالة الركام الذي علق في جدران السياسة خلال فترة وجيزة، لأن ما حدث ترك ندوباً كثيرة وشروخاً واضحة تستوجب العمل الهادئ بعيداً من ضجيج وتحريض الإعلام، الذي وجد في الصراع فرصة لتحقيق مكاسب مادية ولم يكن يوماً حريصاً على البحث عن المشترك الذي يساهم في خفض التوترات وتقريب المواقف.
ستبقى الشكوك حول جدية السلطة في إيران على الالتزام بنصوص البيان، وهناك من المؤشرات ما يعطي انطباعاً على رغبة حقيقية في طهران لمعالجة الخلافات، لأن المعروف أن مؤسسات الحكم فيها متعددة الرؤوس وكلها محكومة بتوجيهات المرشد، ومن هنا تأتي أهمية اختيار علي شمخاني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي للتوقيع على بيان بكين، لأنه يمثل المرشد بحكم موقعه الرسمي في المجلس الذي يترأسه الرئيس إبراهيم رئيسي، مما يعني أن قرار فتح صفحة جديدة تمت الموافقة عليه بعد دراسات وبحث مطول.
من الجانب السعودي فإن العلاقة المستقرة والمباشرة مع إيران ستساهم في البحث المعمق حول قضايا كثيرة يمكن معالجتها، وهذا بدوره سيساعد الرياض في التركيز الكامل على المشاريع التنموية الضخمة التي تحتاج إلى استقرار المنطقة كلها. كما أن الرياض راغبة في العمل مع المجتمع الدولي لإبعاد أخطار البرنامج النووي الإيراني، وهذا لن يكون ممكناً من دون علاقات طبيعية مع طهران، تمنح الرياض فرصة مهمة للحديث المباشر حول هذا الملف الذي يهم المنطقة كما يهم العالم بأكمله.
يرغب المراهنون على السوابق الإيرانية في فشل الاتفاق الجديد، لأنه سيفقدهم مساحات منحها الخلاف وتحركوا فيها بحرية، وساهموا متعمدين في توجيهه بعيداً من السياسة، فأغرقوا المنطقة في صراع طائفي مقيت تسبب في إشعال النيران داخل بلدان عاشت لعقود طويلة في سلم داخلي. والواقع أن طهران تمكنت من جر الجميع إلى مربع الخلافات المذهبية والغوص في الأنساب والانتماءات العائلية القديمة، وإعادة قراءة التراث الذي لا يرتبط بالحاضر والمستقبل.
خسرت المنطقة كلها كثيراً من الجهد والمال والعتاد بسبب الخلاف السعودي – الإيراني، وليس من الحكمة عدم الاندماج في مسار المصالحة التي يجب أن تكون تاريخية، ليتفرغ الكل إلى همومه وطموحاته الداخلية والتعاون الصادق بين دول المنطقة كافة، التي عاشت في حروب داخلية وخارجية خسرت فيها كثيراً من الثروات التي كان يجب توجيهها نحو التنمية. ولعل في التفاهمات السعودية – الإيرانية ما يمنح الجميع فرصة التقاط الأنفاس والبدء في مسار جديد من السلم والطمأنينة.
يجب انتهاز هذه الفرصة والبناء عليها من دون تعجل في الحصول على نتائج يتمناها كل عاقل في المنطقة، وهذا يلزمه البحث عن المخارج للأزمات بدءاً من الحرب في اليمن التي استنزفت الجميع، ثم انتخابات الرئاسة في لبنان، وإعادة الاستقرار والسلم الاجتماعي في العراق. وهي كلها قضايا معقدة، لكن التوصل إلى مخارج تضمن الاستقرار، ممكن وواجب.
نقلا عن اندبندنت عربية