اختتمت القمة السابعة لرؤساء دول وحكومات منتدى البلدان المُصدرة للغاز، في 2 مارس الجاري، بالجزائر، بالمُصادقة على “إعلان الجزائر”، الذي جاء ليكشف عن طموح كبير للدول الأعضاء بمحاولة إطلاق استراتيجية “الحوار القوي ركيزة مستقبل الغاز”، بالشكل الذي يحاول فيه أعضاء المنتدى رسم “رؤية مشتركة” للحفاظ على مصالح المنتجين والمستهلكين في آن واحد. وتأتي هذه الاستراتيجية كمحاولة من جانب الدول الأعضاء لمواجهة عدد من الإشكاليات، وأهمها التدخلات المُصطنعة في أسواق الغاز الطبيعي، بما فيها محاولات التأثير على آليات وضع الأسعار، وتسقيف الأسعار بدوافع سياسية، فضلاً عن التداعيات السلبية للقيود الاقتصادية أُحادية الجانب، بما يؤدي إلى تفاقم التضييق على الأسواق، وتزايد اختلال التوازنات بين المنتجين والمستهلكين.
عبر اعتماد “إعلان الجزائر”، في ختام القمة السابعة لمنتدى الدول المُصدرة للغاز؛ أطلقت الدول الأعضاء الاستراتيجية الجديدة التي تستهدف الحفاظ على الحقوق السيادية المُطلقة لهذه الدول على مواردها الطبيعية، من أجل تعزيز استقرار الأسواق في ضوء تأمين العرض والطلب، وتعزيز الاستثمار الهادف لتحقيق وضمان أمن وعدالة الطاقة في العالم، خاصةً أن الغاز الطبيعي يأتي كطاقة موثوقة ومستدامة وعصرية لمواجهة تحديات التغيرات المناخية وتحقيق تنمية مستدامة.
لكن رغم ذلك، ورغم أن إعلان الجزائر قد شدد على تعزيز مكانة منتدى الدول المُصدرة للغاز، ودعا إلى الحوار بين المنتجين والمستهلكين؛ إلا أنه أشار، وإن بشكل غير مباشر، إلى عددٍ من القضايا الإشكالية التي تواجه المنتدى، والدول الأعضاء داخله، هذه الدول التي تمتلك 70% من احتياطيات الغاز المثبتة في العالم، والتي توفر 51% من صادرات الغاز الطبيعي المُسال إلى دول العالم.
قضايا إشكالية
تمثلت أهم القضايا التي واجهت منتدى الدول المُصدرة للغاز فيما يلي:
1- محدودية تأثير المنتدى في أسواق الغاز: إذ يبدو أن المنتدى يسعى إلى أن يكون له تأثير في أسواق الغاز، في محاولة للتشابه مع ما تقوم به منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك” عالمياً، ومدى تأثيرها على أسواق النفط. وكما هو واضح، ونتيجة لأن النفط يظل أكثر أهمية من الغاز، على الأقل في الوقت الحالي، لذلك فإن ثقل منتدى الدول المُصدرة للغاز، لم يصل بعد إلى مستوى الثقل والتأثير الذي تتمتع به “أوبك”.
لكنّ هذا لا ينفي أن دول المنتدى تتحكم في إنتاج النسبة الأكبر من صادرات الغاز على مستوى العالم، بما يجعلها قادرة على التأثير في مدى استقرار أسعار الغاز عالمياً. فإضافة إلى ما تتمتع به هذه الدول، أعضاء المنتدى، من السيطرة على 70 % من احتياطيات الغاز العالمية، فهي تتحكم -في الوقت نفسه- في 43 % من أنابيب الغاز العالمية، وذلك بحسب خبير الطاقة عبد الرحمن مبتول، الذي عمل في شركة سوناطراك الجزائرية لسنوات، في حوار له مع فضائية “TRT عربي”، في 27 فبراير الماضي.
2- تزايد المُطالبة بالتخلي عن الطاقة الأحفورية: حيث يبدو أن الغرب الأوروبي كان يُخطط للتخلي عن الطاقات الأحفورية مع حلول العام 2050، وذلك قبل أن تأتي الحرب الروسية الأوكرانية، وتقوم بخلط كل الأوراق، تلك المتعلقة بالطاقة، وفي مقدمتها الغاز، وخاصة مع تراجع احتياطيات الغاز الأوروبية، بسبب هذه الحرب، لأقل من 60 % في شتاء العام الماضي 2023.
والمُلاحظ أن الأمر لم يتوقف عند هذه الحدود، ولكن وصل عبر تداعيات هذه الحرب إلى التأكيد على أن الغاز كمورد طبيعي يبقى الأكثر طلباً والأقل تلويثاً، والأقدر ديمومة على تموين المصانع الكبرى بالطاقة اللازمة للإنتاج. وهذا ما تبدى بوضوح في إثر قرار الرئيس الأمريكي جو بايدن، بوقف الصادرات الجديدة للغاز الطبيعي، الذي أدى إلى الإضرار بالاقتصادات الأوروبية، التي لن تجد بديلاً عن الغاز الطبيعي لسد احتياجاتها من الطاقة، حتى وإن تطلب الأمر منها “تخفيض البصمة الكربونية”، وهو ما تعمل عليه، في الوقت نفسه، كافة الدول المُصدرة للغاز.
3- تنامي النزوع نحو طلب الطاقات المتجددة: فمع ظهور وتنامي النزوع العالمي، وخاصة في القارة الأوروبية، نحو الطاقات المتجددة، خلال السنوات الأخيرة؛ تحاول الدول المُنتجة والمُصدرة للغاز الحفاظ على هذا المورد باعتباره ضمن أهم موارد الطاقة الضرورية، والتي سوف يستمر الطلب عليها لسنوات قادمة.
وتأتي محاولات هذه الدول لاتخاذ خطوات فعالة وفاعلة لأجل الحفاظ على الغاز كمورد طاقة طبيعي نظيف وأقل تلويثاً، في إطار سعي الاتحاد الأوروبي لخفض انبعاث “ثاني أكيد الكربون”، بنسبة 90 %، مع حلول عام 2040، كما يؤكد خبير الطاقة عبد الرحمن مبتول، وهو ما يتطلب اعتماداً أوروبياً أكبر على الطاقات المتجددة والنظيفة، مثل الكهرباء والهيدروجين الأخضر والأزرق، بما يستدعي بالتالي اهتماماً متنامياً من الدول المُصدرة للغاز في مواجهة هذه الإشكالية، وتحديداً بالنسبة للدول التي تعتم ميزانياتها على تصدير الغاز الطبيعي.
4- الخلاف المستمر حول التقدير الزمني للعقود: وهو الخلاف الذي يظهر باستمرار بين المنتجين والمستهلكين، ففي الوقت الذي يُطالب فيه المنتجون بالاتفاق على عقود متوسطة أو طويلة الأجل، مع النص في الاتفاق على رفع الأسعار المُتفق عليها، في حال عرفت الأسواق زيادة لافتة؛ إلا أن المستهلكين دائماً ما يرفضون ذلك.
وبالتالي، فإن محاولة ضبط أسواق الغاز، من منظور ضبط الأسعار وتناسبها مع كافة المتغيرات الاقتصادية، والمؤثرات الجيوسياسية، على الساحة العالمية، لا ترتبط فقط بقرارات الدول الأعضاء في منتدى الدول المُصدرة للغاز، ولكن أيضاً بمعدل نمو الاقتصاد العالمي، ومدى التطور الحاصل في الاعتماد على الطاقات المتجددة، فضلاً عن التغيرات الحاصلة في أنماط الاستهلاك العالمي من الغاز، وكذلك التوترات في المجالات الجيواستراتيجية، التي تتسبب في بعض الأحيان في رفع الأسعار، مثل الأوضاع في مضيق هرمز ومضيق باب المندب والبحر الأحمر.
5- تداعيات القيود الاقتصادية أحادية الجانب: إذ تأتي هذه القيود ضمن أهم القضايا في إعلان الجزائر، الذي جاء ليُدين العقوبات الاقتصادية أُحادية الجانب، خاصة تلك القيود المُتخذة دون الموافقة المُسبقة من مجلس الأمن الدولي، التابع لمنظمة الأمم المتحدة، ضد الدول الأعضاء في المنتدى، من حيث إن هذه القيود تؤثر بشكل سلبي على تطوير منظومة الغاز الطبيعي وتجارته، بل وتُشكل تهديداً على أمن الإمدادات بالغاز الطبيعي.
وكما يبدو فإن هذه الإدانة التي يتضمنها إعلان الجزائر بخصوص القيود أُحادية الجانب، إنما تُشكل رسالة موجهة بالتحديد إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والدول الغربية في أوروبا، التي فرضت عقوبات أحادية الجانب على روسيا منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
6- التأثير السلبي للحرب الروسية الأوكرانية على أسواق الغاز: حيث كشفت هذه الحرب أنه لا يُمكن الوثوق في أسواق الغاز بالشكل الحالي لها، فقد أثرت الحرب الروسية الأوكرانية بشدة في الأسعار، خاصة بالنسبة إلى أوروبا التي كانت تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي، وهذا ما أدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل كبير إلى مستويات قياسية في بدايات هذه الحرب وفرض العقوبات الأوروبية والأمريكية على الغاز الروسي.
ولكن مع مرور الوقت عادت الأسعار لتستقر فيما بعد، بسبب أن الدول الأوروبية اتخذت العديد من الإجراءات الاحترازية لتفادي التبعية لروسيا بخصوص الغاز، وفي مقدمتها تنويع مصادر استيراد الغاز. ومن ثم يبدو أنه من المهم تواجد أسلوب للحوار بين المنتجين والمستهلكين بشأن التوصل إلى توافق حول الأسعار العادلة لكل الأطراف، من أجل استقرار الأسواق، واستقرار الأسعار أيضاً.
آليّة تنسيق
في هذا السياق، يُمكن القول إن الغاز الطبيعي سوف يظل من مصادر الطاقة عالية الأهمية، بفضل العديد من السمات التي تميزه عن المصادر الأخرى، مثل الفحم والنفط، فهو الأقل تلويثاً للبيئة والأكثر توافراً، هذا بالإضافة إلى سهولة إمكانيات نقله عبر الأنابيب، وكذلك إمكانية تصديره بعد تحويله إلى الحالة السائلة.
ورغم القضايا الإشكالية التي تواجه أعضاء منتدى الدول المُصدرة للغاز، ومدى تأثيرها السلبي على العلاقة بين المنتجين والمستهلكين، فإن المنتدى نفسه وإمكانية تحوله إلى “آلية تنسيق” وتعاون بين الأعضاء من أجل تحديد مستويات الإنتاج واستراتيجيات التسويق، سوف يؤدي إلى قرارات تُساهم في ضبط الأسواق، والتحكم في الأسعار من خلال تحديد الكميات المعروضة من الغاز.