باينت تفسيرات الحرب الروسية الأوكرانية، واختلفت التحليلات بشأن نتائجها وتداعياتها على أطرافها والعالم أجمع، والحقيقة أن هذه الحرب هى بداية الإفصاح عن الصراع الكامن حول إعادة هيكلة النظام الدولى، من حيث بنيانه وقادته وهويته وأهدافه والإقرار بحتمية انتقاله إلى نظام دولى أكثر تعبيرًا عن حقيقة تغير المكانة بين الدول الكبرى، التى تربعت على قيادته بصورة أو أخرى بعد الحرب العالمية الثانية، وقد يكون من المفيد تشبيه الحضارات، التى تنتج النظام الدولى، بالدورة العمرية للإنسان أو الكائن الحى، التى تبدأ بالطفولة والنمو والشباب والفتوة، ثم الشيخوخة والتحلل، وفى كل مرحلة، هناك مقومات ذاتية وبيئة وجغرافيا تحدد شكل كل دورة وآلياتها وهكذا، فإن المقومات أى المكان سواء تمثل فى الموارد أو الموقع تحدد المكانة، ولاستمرار البقاء لابد أن تنسجم المكانة مع المكان وإلا حدث خلل هيكلى لا يمكن الاستمرار فى الحياة دون تصحيحه.
النظام الدولى الراهن أقامته الدول المنتصرة فى الحرب العالمية الثانية ويعكس توازن القوى فيما بينها، وقد بدأ ثنائيًا منذ 1945 حتى 1991، ثم تحول أحاديًا تتربع عليه الولايات المتحدة ما بين 1991- 2008 حينما وقعت الأزمة المالية وصار تعدديًا قيد التشكيل مع صدارة الولايات المتحدة، وكان النظام الدولى ولا يزال أوروبيًا أمريكيًا بمشاركة اليابان وروسيا والصين على قيادته، وكان منطقيًا أن تتزعمه الولايات المتحدة أقوى دولة عسكريًا واقتصاديًا، إذ تحتل المركز الأول فى العالم بالنسبة للناتج القومى الإجمالى بقيمة 21 تريليون دولار، تليها الصين بقيمة 15 تريليون دولار.
بيد أنه منذ بداية الأزمة المالية العالمية فى 2008، حتى الآن، تغيرت قدرات الدول الكبرى بسرعة فائقة حالت دون استطاعة الولايات المتحدة اللحاق بها؛ فلقد تربعت الصين على عرش التجارة الدولية بحوالى 2٫590 تريليون دولار، بينما توقف نصيب الولايات المتحدة عند 1٫43 تريليون دولار، واستحوذت الصين على تكنولوجيا الجيل الخامس كله تقريبًا، وفوق ذلك استثمرت الصين وروسيا فى تنمية وتطوير ترسانتهما النووية بصورة غير مسبوقة، بينما تسعى الولايات المتحدة إلى تحديث قدراتها النووية فقط. لقد توسع النفوذ الصينى والروسى فى افريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وأوروبا، بينما قررت الولايات المتحدة الانسحاب إلى ما وراء الأطلنطى، وسعت إلى توسيع حلف الأطلنطى والاتحاد الأوروبى إلى دول شرق أوروبا مع نية امتداده إلى كل الدول الأعضاء السابقة فى الاتحاد السوڤيتى بصورة خلقت أزمة هوية فى أوروبا وأزمة فى القيم السياسية بين شقى القارة العجوز، شرقها وغربها. ويبدو واضحًا اليوم أن هناك تساؤلات مشروعة حول أسس النظام الدولى الراهن ومدى قدرته على الاستمرار فى ظل تلك التغيرات المتسارعة فى القدرات والإمكانات بين الدول الكبرى، والأهم ما ستؤول إليه تلك القدرات قريبًا؛ فكيف يستمر النظام تحت قيادة دول صارت تقريبًا درجة ثانية فى المكانة مثل بريطانيا وفرنسا، وأين مكانة الصين وروسيا والهند، وكيف يستمر بنيان النظام الدولى على ما هو عليه فى الوقت الذى تغير فيه سلوك بعض أطرافه الصغرى، والذى انعكس مثلاً فى تصويت الدول فى الجمعية العامة للأمم المتحدة حول قرار إدانة العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا، ولماذا تستمر هويته الأوروبية الأمريكية فى ظل التراجع الكبير عن قيم الليبرالية فى الدول الرأسمالية، وهى القيمة العليا التى تميز فيما سبق بالتمسك بها والدفاع عنها.
ومما يدفع إلى ضرورة إعادة هيكلة النظام الدولى التنبؤات بمكان وموضع الدول الكبرى فى المديين القريب والبعيد؛ ففى عام 2030، سوف تتربع الصين على قمة النظام الدولى سواء فى قيمة الناتج القومى الإجمالى، والتى تتعدى 42 تريليون دولار، تليها الولايات المتحدة بقيمة 28 تريليون دولار، أو فى حجم التجارة الخارجية؛ حيث تستمر الصين متربعة على عرشها. وتشير التقديرات إلى استمرار هذا التغير فى عام 2050، حيث تحتل الصين المكانة الأولى فى قيمة الناتج القومى الإجمالى 58 تريليون دولار تليها الهند بقيمة 44 تريليون دولار ثم الولايات المتحدة بما لا يتجاوز 34 تريليون دولار.
يضاف إلى ذلك، أنه فى الوقت الذى تتصارع فيه أوروبا بين الشعبوية والقومية، وتنقسم فيه الولايات المتحدة إلى ما يشبه الشقين المختلفين، أولئك الذين يعتقدون أن المجتمع الأمريكى ينبغى أن يؤكد على حقوق الرجل الأبيض أولاً، ثم الآخرين، وأولئك الذين يرون بأن المجتمع الأمريكى لا يزال بوتقة الانصهار للجميع دون تمييز بسبب العرق أو اللون أو الدين، والواقع يشير إلى أنه يمكن أن يتجذر كل شق مع مرور الوقت، بينما يحدث ذلك فى أوروبا والولايات المتحدة، تتجه روسيا والصين واليابان والهند ودول عديدة إلى إعادة بناء الشعور القومى وترسيخ الولاء للدولة القومية. ولقد كشفت تفاعلات الحرب الروسية الأوكرانية بعض تلك المظاهر سواء فى مواقف الدول فى أوروبا واستراليا واليابان والولايات المتحدة من الحرب وتداعياتها، أو فيما يتصل بالأبعاد المتعلقة باللاجئين والفارين والباحثين عن الأمان، كما كشفت الحرب عن عدم رضاء أغلبية أعضاء النظام الدولى الراهن بأن يتحملوا فى كل مرحلة للصراع الدولى بين قادة النظام تكلفته المادية والإنسانية، ولا شك أن عدم الرضا يشكك فى شرعية النظام الدولى لأن استدامة أى نظام تتطلب الرضا العام عنه.
مهما كانت نتيجة الحرب الدائرة الآن فإنها ستقود لا محالة إلى إعادة هيكلة النظام الدولى بصورة تؤدى إلى أن تعكس المكانة المكتسبة لقيادته المكان والقدرات التى تحتلها كل منها، ومن المتصور أن تقود النظام بعد أن تسكت المدافع كلا من الصين وروسيا والولايات المتحدة وألمانيا، وربما تصعد الهند إلى تلك المكانة، وربما تتغير المنظمات الدولية صنيعة الحرب الباردة إلى منظمات أكثر فاعلية وأكثر تعبيرًا عن النظام الدولى الجديد، فى هذا النظام لن يكون للعرب مكانة إلا إذا خلقوا لأنفسهم مكانًا وموضعًا يعكس قدراتهم التى لم يستغلوها معا بعد.
نقلا عن الأهرام