كل التحركات والتصريحات السياسية المرتبطة بمنطقة الشرق الأوسط تؤكد أننا امام مرحلة جديدة للمنطقة، تتضمن ترتيبات محددة وتحالفات مختلفة وأولويات قد تشكل مفاجأة للبعض، وليس الأمر مرتبطا فقط بلقاء الرئيس الامريكى جو بايدن المرتقب مع زعماء دول الخليج ومصر والأردن والعراق منتصف الشهر الحالى فى الرياض، لكن هناك اجتماعات مهمة تتعلق بالمنطقة بعضها معلن وبعضها سرى وتحالفات متعددة ومشاورات كثيرة حدثت خلال الفترة الأخيرة ومازالت مستمرة.
والسؤال الذى يطرح نفسه: ما موقع العرب من هذه الترتيبات وهم فى قلبها، هل سيشاركون فيها كدول منفردة أم بشكل جماعى، وما هو موقع جامعة الدول العربية من هذه الترتيبات، وما هو تأثيرها على الأمن القومى العربى، بل وما هو مفهوم الأمن القومى العربى الآن؟!
الإجابة على هذه التساؤلات تبدأ من محاولة التعرف على مفهوم الأمن القومى العربى الآن، فعلى مدى سنوات طويلة ارتبط هذا المفهوم فى أذهان الجميع بالصراع العربي-الإسرائيلى وقضية فلسطين، فماذا سيكون الأمر عندما يجمع العرب وإسرائيل منظومة أمنية واحدة؟
الحقيقة أن مصطلح الأمن القومى العربى منذ بداية استخدامه فى الأدبيات السياسية مصطلح غامض، ولم يتضمنه ميثاق جامعة الدول العربية عند تأسيسها، وتحدثت المادة السادسة من الميثاق فقط عن حق أى دولة من الدول الأعضاء فى طلب عقد جلسة عاجلة لمجلس الجامعة إذا تعرضت للاعتداء أو تخشى وقوع اعتداء عليها، ويقرر المجلس التدابير اللازمة لدفع هذا الاعتداء. ورغم استخدام معظم القادة العرب بعد ذلك مصطلح الأمن القومى العربى وشيوعه لعقود طويلة مرتبطا بالصراع العربى الإسرائيلي، إلا أن المرة الأولى والوحيدة التى حاولت فيها الدول العربية الوصول إلى مفهوم محدد لهذا المصطلح كانت فى مارس عام 1990 عندما قرر مجلس الجامعة تكليف الأمانة العامة بإعداد دراسة عن موضوع الأمن القومى العربى، وعرضها على الدول الأعضاء لدراستها من قبل مجلس الجامعة فى دورته العادية المقبلة، وتقدمت الأمانة العامة للجامعة بورقة عمل للقمة العربية التى عقدت فى بغداد فى 28 مايو 1990 تحت عنوان (الأمن القومى العربى .. عرض للتهديدات والتحديات) حددت مفهوم الأمن القومى العربى بأنه (قدرة الأمة العربية على الدفاع عن أمنها وحقوقها وصيانة استقلالها وسيادتها على أراضيها، وتنمية القدرات والإمكانيات العربية فى مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، مستندة إلى القدرة العسكرية والدبلوماسية، آخذة فى الاعتبار الاحتياجات الأمنية الوطنية لكل دولة، والإمكانات المتاحة، والمتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية، والتى تؤثر على الأمن القومى العربي). ودخلت المنطقة العربية بعدها فى دوامة الغزو العراقى للكويت وما ترتب عليه من تداعيات وانقسامات وتدخلات أجنبية مباشرة، مما دعا الجامعة العربية إلى إعادة مناقشة موضوع الأمن القومى العربى فى دورة سبتمبر 1992، وكلفت الأمانة العامة بإعداد دراسة شاملة عنه خلال فترة لا تتجاوز ستة أشهر تعرض بعدها على مجلس الجامعة، لكن هذه الدراسة لم تعرض على مجلس الجامعة حتى الآن.ومنذ 1992 وحتى اليوم شهدت منطقة الشرق الأوسط وفى قلبها الدول العربية تطورات متسارعة غيرت من أوضاع كثيرة ومفاهيم أكثر، فلم يعد الصراع العربى الإسرائيلى هو محور الأمن القومى العربى، وهناك مواقف متباينة للدول العربية من سبل التعامل مع هذا الموضوع وغيره من التحديات الحالية التى تواجه المنطقة، فالمغرب على سبيل المثال يعتبر إسرائيل حليفا استراتيجيا، بينما جارته الجزائر تعتبر إسرائيل عدوا أساسيا، وبينما تعتبر معظم دول الخليج إيران عدوا يتهددها، تسيطر طهران بشكل أو بآخر على مقاليد القرار فى دول عربية أخرى، ووصلت التدخلات الإقليمية والدولية فى شئون بعض الدول العربية إلى حد السيطرة الكاملة فى ظل عجز جامعة الدول العربية عن حماية الأمن القومى القطرى لأعضائها. الواقع يقول اننا امام 22 دولة عربية لكل منها مصالحها وتوجهاتها وتحالفاتها وأهدافها الخاصة، التى قد تتناقض مع بعضها البعض، وحتى فكرة تشكيل قوة عربية مشتركة لصيانة الأمن القومى العربى التى طرحت عام 2015 فشلت بسبب الخلافات العربية العربية، رغم أن المادة الثانية من البروتوكول تنص على أن المشاركة اختيارية، وأن هدفها مواجهة التهديدات والتحديات بما فى ذلك تهديدات التنظيمات الإرهابية، والتى تمس أمن وسلامة واستقرار أى من الدول الأطراف وتشكل تهديدا مباشرا للأمن القومى العربي. إن القمة العربية التى تمثل رأس هرم العمل العربى المشترك لم تنعقد منذ مارس 2019، وتأجلت اجتماعاتها خلال عامى 2020 و2021 والسبب المعلن كان أزمة كورونا، بينما يعلم الكثيرون أن أسبابا سياسية وخلافات بينية حالت دون انعقاد القمة العام الماضى ولو عبر الفيديو كونفرانس، ورغم موافقة مجلس الجامعة على المستوى الوزارى خلال شهر مارس الماضى على عقد القمة فى الجزائر نوفمبر المقبل، إلا أن بعض الخبراء مازال يشكك فى إمكانية ذلك نتيجة استمرار الخلافات. ولفت الانتباه تصريح الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط فى مطار بيروت يوم الجمعة الماضى الذى أشار فيه إلى أن الاجتماع التشاورى لوزراء الخارجية العرب المقرر عقده فى اليوم التالى (ليس له جدول أعمال أو أفكار محددة لكن سيطرح كل وزير فكره من منظور بلاده)، رغم أن الهدف من الاجتماع هو التحضير لقمة الجزائر. فهل تعدد الإرادات العربية السياسية المختلفة وتباين المصالح والتوجهات والأهداف الآن يجعلنا بحاجة إلى صياغة مفهوم جديد للأمن القومى العربى، أو البدء بإعادة ترتيب البيت العربى ليكون قادرا على مواجهة المتغيرات الجديدة فى الشرق الأوسط بشكل جماعى، وهل يمكن تجاوز تباين المصالح بين الدول العربية المختلفة، والوصول إلى حد أدنى من التعاون يحافظ على المصالح المشتركة الباقية.
نقلا عن الأهرام