إشكاليّات معقدة:
تحديات إعمار مناطق الزلزال في تركيا

إشكاليّات معقدة:

تحديات إعمار مناطق الزلزال في تركيا



اكتسبت عمليات إعادة المناطق التي دمرها زلزال 6 فبراير الذي ضرب مناطق جنوب تركيا وشمال سوريا اهتماماً وزخماً خاصاً، خلال الأيام الحالية، وهو ما يمكن تفسيره انطلاقاً من عدة عوامل أبرزها تجديد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 21 فبراير الماضي، تعهده بإعادة بناء جميع المنازل المدمرة خلال عام واحد فقط، وإعلان برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في 24 فبراير الماضي أنه سيدعم أعمال إزالة الأنقاض الناجمة عن زلزال تركيا، بالإضافة إلى الاتفاق على انعقاد مؤتمر المانحين من أجل متضرري الزلزال في 16 مارس المقبل.

لكن برغم الاصطفاف الدولي والإقليمي مع أنقرة، واستمرار تعزيز المساعدات الدولية، وجمع التبرعات لضحايا الزلزال؛ إلا أن ثمة العديد من الإشكاليات التي قد تعوق عمليات إعادة الإعمار بالمناطق المدمرة من الزلزال، وهي لا ترتبط فقط بالتكلفة المالية الضخمة لإعادة الإعمار، والتسييس المحتمل لمساهمات الجهات المانحة الدولية، وإنما ترتبط بقدرة الاقتصاد التركي الذي يعاني تباطؤاً لا تخطئه عين، فضلاً عن الانعكاسات المحتملة لحالة الاستقطاب السياسي التي تشهدها البلاد على عمليات إعادة الإعمار.

مؤشرات محفزة

هناك عدد من المتغيرات الإقليمية والدولية التي تصبّ في اتجاه دفع عمليات إعادة الإعمار بالمناطق المنكوبة جنوب تركيا بفعل الزلزال، في الصدارة منها:

1- توجيه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في 16 فبراير الماضي نداء لجمع مليار دولار من أجل دعم تركيا إثر الكارثة، وسيتم تخصيص قسم كبير من أصل 113.5 مليون دولار مطلوبة، في إطار نداء المساعدة الدولية، من أجل أعمال إزالة الأنقاض.

2- إطلاق المنظمة الدولية للهجرة في 21 فبراير الماضي نداءً للجهات المانحة بتوفير تمويل قيمته 161 مليون دولار لإغاثة أكثر من 1,4 مليون شخص في المناطق المتضررة من الزلزال الذي ضرب تركيا وشمال غرب سوريا.

3- تطلع جماعات المصالح الاقتصادية المحلية والدولية، سواء كانت رسمية أو خاصة، للاستثمار في إعادة إعمار المنطقة المنكوبة جنوب تركيا.

4- استطاعة تركيا خلال الأيام القليلة الماضية توفير المأوى حتى يوم 26 فبراير الماضي لمليون و684 ألفاً من المواطنين المتضررين من الزلزال المدمر الذي ضرب جنوبي البلاد.

5- نجاح حملة التبرعات الشعبية التي أطلقتها مؤسسات محلية كبرى ورجال أعمال أتراك في جمع نحو 115 مليار ليرة (6 مليارات دولار)، وجاءت الحملة بعنوان “تركيا قلب واحد”، وانطلقت في 15 فبراير الماضي.

5- تعهد شركة “توكي” التي تمتلكها تركيا، وتعد واحدة من أكبر هيئات البناء الحكومية في العالم، بالمشاركة في عمليات إعادة الإعمار وتسخير كافة قدراتها لتسريع وتيرة الإعمار خلال وقت قياسي. ويُشار إلى أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يُعوّل على “توكي” بدرجة أساسية في تولي هذه المهمة الصعبة. يُضاف إلى ذلك شركات البناء التابعة للقطاع الخاص في المجال العقاري، التي وعدت بالعمل على المشاركة في عمليات الإعمار وإعادة البناء.

معوقات حاكمة

تواجه عمليات إعادة إعمار المناطق المنكوبة جنوب تركيا بفعل الزلزال العديد من التحديات التي تحول دون نجاحها، والتي تتمثل فيما يلي:

1– حشد موارد مالية ضخمة: يتمثل أحد التعقيدات التي تواجه إعمار المناطق التي ضربها الزلزال جنوب تركيا، في توافر الموارد المالية المخصصة لها، خاصة أن قطاعاً واسعاً من المنشآت الحيوية والمباني التعليمية والصحية والبنية الصناعية تعرضت للتدمير. ووفقاً لتقديرات مؤسسات مالية محلية وعالمية، فإن تكلفة إعادة الإعمار في تركيا ستبلغ نحو 50 مليار دولار. ورغم توقع مساهمة المساعدات الدولية التي أعلنت عنها العديد من الدول في دعم تكاليف مشاريع إعادة إعمار المحافظات التركية المنكوبة، فضلاً عن تولي الأمم المتحدة زمام القيادة لجمع مليار دولار لضحايا زلزال تركيا. كما قدمت قطر نحو 70 مليون دولار مساعدات نقدية لتركيا. لكن رغم ذلك، لا يتوقع أن تكفي المبالغ التي تلقّتها تركيا حتى الآن لتغطية تكاليف إعادة الإعمار الضخمة، وهو ما قد يدفع أردوغان للتفكير نحو اللجوء إلى البنك الدولي من أجل الحصول على قروض كبيرة تساهم في تخفيف الأعباء المالية عن الحكومة في المرحلة الحالية.

2– تراجع مؤشرات الاقتصاد التركي: تفرض تداعيات زلزال 6 فبراير، وبخاصة الانهيار الهائل في أعداد المباني، والتي بلغت نحو 520 ألف وحدة سكنية منهارة أو بحاجة للهدم جراء الزلزال، أعباء مالية إضافية على الاقتصاد المتردي في تركيا، من أجل توفير المخصصات المالية اللازمة لإعادة تأهيل المدن المنكوبة. وبالرغم من البوادر الإيجابية التي أبدتها الحكومة التركية، وتعهّد الرئيس أردوغان بإعادة الإعمار في غضون عام واحد فقط، بالإضافة إلى حملات التبرع الضخمة التي قامت بها الجهات الرسمية والشعبية التركية، لكن على ما يبدو فإن الصعوبات الاقتصادية التي تواجه تركيا قد تعرقل -بشكل نسبي- المخصصات الحكومية اللازمة لعمليات إعادة الإعمار. ويتوقع أن تعاني الميزانية التركية إرهاقاً غير مسبوق لتلبية إعادة الإعمار، خاصة أن قرابة 1,7 مليون شخص باتوا بلا سكن ويعيشون حالياً في البدائل التي تعمل الحكومة على توفيرها للمشردين من خلال تخصيص مساكن الطلاب الجامعيين والفنادق والخيام والسفن السياحية.

3– حدوث زلزال جديد واستمرار الهزات الأرضية: تُعد هذه إشكالية رئيسية تواجه تركيا، خاصة أن البلاد لا تزال تشهد زلازل جديدة، وهزات أرضية مستمرة، ففي 7 فبراير الماضي أعلن مركز رصد الزلازل الأوروبي عن وقوع هزة أرضية جديدة بقوة 5.6 درجات على مقياس ريختر ضربت وسط تركيا. كما ضرب زلزالان بقوة 6.4 و5.8 درجات على مقياس ريختر جنوبي تركيا في 20 فبراير الماضي، بالإضافة إلى العديد من الهزات الأرضية المتتالية التي شهدتها تركيا بعد الزلزال المدمر في 6 فبراير الماضي. ولا شك أن كثافة الهزات الأرضية، وتحول تركيا إلى مركز إقليمي للزلازل، واحتمال تعرض إسطنبول لزلزال محتمل خلال الفترة المقبلة، وهو ما يوسع من دائرة المناطق المنكوبة، ومن ثم زيادة كلفة إعادة الإعمار، وهو ما لا تقوى عليه تركيا.

4– تسييس مساهمات الجهات المانحة: تتمثل إحدى الإشكاليات المحتملة التي ربما تواجه عمليات إعادة إعمار المناطق المنكوبة جنوب تركيا، في ربط بعض الجهات المانحة الدولية المساهمة في إعادة بناء أو إعمار تلك المناطق بشروط إجراء تغيير في توجهات السياسة الخارجية التركية، وإحداث تحولات جوهرية تتعلق بالممارسات السياسية في الداخل، وهو ما قد يظهر خلال مؤتمر المانحين المقرر له مارس الجاري، فقد يميل بعض قادة الدول الغربية، وبخاصة واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي، نحو توظيف المؤتمر لتعزيز الضغوط على أنقرة لإنهاء معارضتها انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو، بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة قد تسعى إلى استثمار قضية إعادة الإعمار في تركيا لدفع الأخيرة نحو تحييد ضغوطها على قوات سوريا الديمقراطية “قسد” شمال سوريا، وفك ارتباطها مع موسكو، ووقف قطار التطبيع مع نظام الأسد. كما يتوقع أن تتجه الدول الغربية لتوظيف مسألة إعادة الإعمار للضغط على المؤسسات التركية الرسمية لالتزام الحياد حيال الاقتراع المقرر له مايو المقبل.

5– التخلّص من ركام الزلزال بطريقة صحية: يمثل ركام المباني التي تهدمت بفعل الزلزال تحدياً أمام عمليات إعادة الإعمار، إذ خلف الزلزال مئات الأطنان من الركام. وكانت لويزا فينتون، ممثلة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في تركيا، قد قالت في تصريحات لها منتصف فبراير الماضي: “إن الزلزال خلّف جبالاً من الأنقاض غير المسبوقة”. ويُقدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي كمية الحطام والرماد بما يتراوح بين 116 و210 ملايين طن، وهو ما يعني حاجة أنقرة إلى 7 ملايين متر مربع من الأرض للتخلص من هذا الركام وتخزينه بطريقة صحية. ورغم وضع تركيا برنامجاً لجمع حطام الزلزال وإعادة صبه تمهيداً لإعادة تدويره، إلا أن الانهيار المستمر في المباني بفعل الهزات الارتدادية فضلاً عن قرارات بإزالة العديد من المباني الآيلة للسقوط بعد الزلزال يزيد من وطأة أزمة ركام الزلزال، ويجعل التخلص منها تحدياً غير مسبوق.

6– تفاقم المشاكل البيئية وتفشي المخاطر الصحية: أدى التدمير الذي أحدثه الزلزال في محافظات جنوب تركيا إلى حدوث تلوث واسع للمجال الجوي بفعل غبار حطام المباني، بالإضافة إلى التفشي المحتمل للأمراض والمخاطر الصحية بسبب الانهيار الحادث في المشافي والبنية التحتية. وبحسب تقديرات علمية فإن معظم المباني المنهارة في جنوب تركيا بفعل الزلزال كانت قديمة، وكانت تحتوي على مواد خطيرة مثل “الأسبستوس”، وهي مادة يمكن أن تتسبب في الإصابة بالسرطان. كما أن مواسير الصرف الصحي المتضررة من الزلزال، ومخاطر اختلاط مياهها بمياه الشرب أو بمناطق زراعية، قد تتسبب في تفشي الأمراض والأوبئة.

7- معضلة التأهيل البشري لمرحلة ما بعد الزلزال: يرتبط أحد التحديات التي قد تواجه مسألة إعادة إعمار المحافظات التركية المنكوبة بسبب الزلزال، بتنمية وتعزيز جهود إعادة تأهيل البشر الذين عانوا من ويلات الزلزال الذي هو الأكبر من نوعه والأخطر في تاريخ تركيا. ويشار إلى أن الزلزال المدمر أثار حالة من الرعب والهلع بين السكان الأتراك، وبخاصة الأطفال الذين فقدوا عائلاتهم تحت الأنقاض. لذلك، فإن التغيرات النفسية التي أصابت من عاشوا هول كارثة الزلزال تهدد حياتهم.

ووفقاً للعديد من التقديرات وخبراء الطب النفسي، فإن الناجين والمصابين في زلزال 6 فبراير سيحتاجون إلى جلسات علاج نفسية لتجاوز آثار الصدمة، خاصة بعد مشاهدة الضحايا وهدم البيوت فوق رؤوسهم، وأيضاً نتيجة فقدان الأبناء والأقارب والأصدقاء. كما سيكون أمام الناجين من الزلزال فترة طويلة من الزمن لعلاج الآثار النفسية والعودة إلى الحياة الطبيعية. ولذلك، من المهمّ تقديم المزيد من الدعم لمساعدتهم وأطفالهم، فالصدمات النفسية التي تعرضت لها أسر بكاملها، وخاصة الأطفال، تؤثر بشكل كبير على أنماطهم السلوكية وتجعلهم معرضين للانفصال عن محيطهم الجغرافي. لذا، فإنّ تحديات إعمار المناطق المنكوبة جنوب تركيا لا تقتصر على الموارد المالية أو البنية التحتية، وإنما تمتد إلى العنصر البشري.

استجابة متعددة

في الختام، يمكن القول إن التعامل مع تحديات إعادة إعمار المحافظات التركية المتضررة من الزلزال يفرض العديد من أنماط الاستجابة المختلفة لتجاوز تحديات ما بعد الزلزال، والتي لا تقتصر فقط على الخسائر الهيكلية والمالية، بل تمتد إلى الجوانب المجتمعية والبيئية والنفسية. لذلك، فإن فرص إعادة الإعمار في تركيا ما بعد الزلزال رغم تنشيط الجهود لتسريع وتيرتها إلا أنها تواجه تحديات صعبة، وتجاوزها قد يحتاج إلى مزيد من الحشالمالي والشعبي والرسمي خلال الفترة المقبلة.