تهديدات مستجدة:
إشكاليّات التعامل العربي مع الاستحقاقات المُؤجَّلة لحرب أوكرانيا

تهديدات مستجدة:

إشكاليّات التعامل العربي مع الاستحقاقات المُؤجَّلة لحرب أوكرانيا



على الرغم من الانعكاسات الهائلة التي فرضتها الحرب الروسية في أوكرانيا على المنطقة بشكل عام والدول العربية بشكل خاص، ولا سيما من المنظور الاقتصادي؛ إلا أن الحراك العربي لم يكن مواكباً لتلك التداعيات. فقد تعاملت معها الدول العربية بشكل انفرادي وفقاً لظروف وقدرات كل دولة وأنماط علاقاتها على الساحة الدولية، فضلاً عن اتجاهات تفاعلاتها مع طرفى الأزمة. ومع أنه تم تشكيل وفد من جامعة الدول العربية قام بزيارة كل من روسيا وبولندا في 4 و5 أبريل الجاري، حيث أعلنت الجامعة رسمياً عقب الزيارة أن الهدف منها كان مسعى لجهد عربي فى الوساطة ما بين الطرفين الروسي والأوكراني ضمن الجهود الدولية الرامية إلى التوصل لوقف إطلاق النار، إلا أن “الاستحقاقات المُؤجَّلة” تفرض ضرورة تطوير التصورات المطروحة للتعامل مع الأزمة، التي كشفت أن هناك جوانب لم تكن منظورة في الحرب أو ربما ستتداعى بشكل أكثر وضوحاً بعد توقفها، وستكون ذات صلة مباشرة بها، الأمر الذي قد يفرض تحديات قوية أمام العمل العربي المشترك في التعاطي مع هذه الاستحقاقات أو التأثير في مسار تطورها خلال المرحلة القادمة.

تداعيات مباشرة

بدأت معظم الدول العربية في وضع سياسات لاحتواء التداعيات الناجمة عن الحرب، كالبحث عن بدائل في الأسواق العالمية للحصول على الحبوب والزيوت. لكن هذه السياسات لم تعبر عن توجه جماعي، على الرغم من القواسم المشتركة في التداعيات، وهو ما تكرر أيضاً في التعامل مع أزمة إجلاء رعايا الدول العربية من الطلاب، حيث تعاملت معها كل دولة على حسب ظروفها ووفق قدراتها في الوصول إليهم، من خلال التنسيق سواء مع روسيا لإجلاء من يتواجد في القطاع الشرقي، أو مع دول الجوار الأوكراني، لا سيما بولندا ورومانيا، للمساعدة في إجلاء من يتواجد في القطاع الغربي.

وبالتالي، من اللافت للنظر في هذا السياق، أنه لم تشكل مجموعة إدارة أزمة جماعية أو شبه جماعية عربية للتعامل مع التداعيات المباشرة التي تسبب فيها اندلاع الحرب، وهو ما يعد أول الدروس المستفادة من هذه الأزمة، وهي خبرة إدارة الأزمة على المستوى العربي، وهي خبرة كان من المفترض أن تتشكل في ظل اختبارات أو دوافع عديدة، منها -على سبيل المثال- أزمة جائحة كورونا، التي كان العمل الجماعي العربي فيها محدوداً وقائماً بالأساس في إطار العلاقات البينية على حسب طبيعة العلاقات العربية-العربية.

ويزداد تأثير ذلك في ضوءالتداعيات الجيوسياسية التي فرضتها الحرب الروسية-الأوكرانية، والتي انعكست على أزمات المنطقة، على نحو يبدو جلياً فيما يلي:

1- تحول أزمة الطاقة إلى محور للتفاعلات في ليبيا: اعتبرت الدول الغربية أن “إغلاق” النفط الليبي يدعم الموقف الروسي، ويمثل ورقة ضغط عليها لتأييد حكومة فتحي باشاغا المكلفة من البرلمان ضد حكومة عبدالحميد الدبيبة. ومن هنا، جددت الولايات المتحدة الأمريكية، في 27 أبريل الجاري، دعوتها إلى إنهاء إغلاق النفط في ليبيا “فوراً”، وأعرب البيان الذي أصدرته السفارة الأمريكية في ليبيا عن تخوف واشنطن من توقف إنتاج وتصدير الخام، وتداعيات ذلك على الاقتصاد العالمي، مشيراً إلى أن واشنطن تبحث عن إيجاد آلية ليبية لحل النزاعات “بدلاً من ارتهان الخدمات”. وبالتوازي مع ذلك، يرى مراقبون أوروبيون أن هناك ضغوطاً على ليبيا لمنع تحويل أنبوب من الغاز إلى الجانب الأوروبي في إطار الأزمة ذاتها، وذلك في ضوء الدور الذي تمارسه روسيا على الساحة الليبية.

2- تحرك القوى المنخرطة في الصراع السوري لاستغلال انشغال موسكو: اعتبرت القوى المنخرطة في الصراع السوري أن سوريا تحولت إلى ساحة خلفية في الحرب الروسية على أوكرانيا. ومن هنا اندفعت تلك القوى إلى محاولة استغلال الانشغال الروسي بإدارة الحرب في أوكرانيا والتعامل مع العقوبات التي تفرضها الدول الغربية لفرض واقع جديد أو إجراء تغييرات في الترتيبات الأمنية التي جرت عملية صياغتها في الفترة الماضية، على نحو بدا جلياً في الاشتباكات بين المليشيا الكردية والقوات التركية في ريف حلب الشمالي، والتي هدد على إثرها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 26 أبريل الجاري، بتوسيع نطاق العمليات العسكرية ضد المليشيا الكردية في تلك المنطقة.

3- إبطاء مفاوضات فيينا حول الاتفاق النووي الإيراني: سعت روسيا، في رؤية اتجاهات عديدة، إلى إبطاء عملية التوصل إلى اتفاق نووي جديد بين إيران والقوى الدولية، على أساس أن إبرام صفقة جديدة يمكن أن يقلص من تأثير وأهمية إمدادات الطاقة كورقة ضغط حرصت على استخدامها في إدارة مواجهاتها مع الدول الغربية في مرحلة ما بعد التدخل العسكري في أوكرانيا. وحتى الآن لم تنتهِ مفاوضات فيينا، حيث توقفت عند آخر اجتماع عقد بين الوفود المشاركة في 11 مارس الفائت، بانتظار تبلور موقف نهائي من جانب إيران والولايات المتحدة الأمريكية إزاء القضايا الخلافية المتبقية.

4- تزايد التحذيرات من عواقب تأجيل صفقات عسكرية مع روسيا: بدأت اتجاهات عديدة في العراق في إطلاق تحذيرات من أن تأجيل صفقات عسكرية مع روسيا تساعد في تحديث قطاعات الجيش العراقي، بسبب العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على موسكو، يمكن أن يفرض تداعيات سلبية على الحرب ضد تنظيم “داعش”، الذي قد يحاول استغلال ذلك في توسيع نطاق نفوذه في العديد من المناطق داخل العراق في إطار محاولاته استعادة نشاطه مجدداً داخل بعض دول المنطقة.

مؤشرات خطر

سعت الدول العربية إلى احتواء التداعيات المباشرة والفورية للأزمة بشكل منفرد كما سلفت الإشارة. لكن من المتصور أن الأزمة سوف تفرض تداعيات أخرى على المديين المتوسط والطويل تفرض ضرورة اتباع نهج مختلف. وتسلط بعض التقارير الدولية الضوء على العلاقات العسكرية والترتيبات الأمنية المشتركة، في ظل موقف الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الغربية عموماً من الاستمرار في إبرام صفقات تسلح مع روسيا.

لكن ربما تكمن الخطورة أيضاً في ملف آخر يتنامى الحديث بشأنه، وهو أن الحرب الروسية-الأوكرانية ستعزز من دور “المليشيات المنقولة” أو “المحمولة” من المنطقة إلى ساحة الحرب، ولا سيما المليشيات السورية، على اعتبار أنها الأكثر خبرة والأكثر قرباً من الجانب الروسي في الساحة السورية، بالإضافة إلى أن هناك تصريحات وتقارير رسمية روسية أكدت هذا الأمر، حيث شرعت موسكو بالفعل في الاستعانة بالعديد من المجموعات لإسناد عملياتها الميدانية في أوكرانيا. وفي مقابل ذلك، كشفت بعض التقارير الأوروبية أن بعض المواطنين العرب ممن تعلموا في أوكرانيا أو عاشوا فيها لسنوات طويلة قرروا البقاء والانخراط في الحرب إلى الجانب الأوكراني، وإن كانت أعدادهم محدودة للغاية، خاصة إذا ما قورنت بالمقاتلين بالأجر الذين تُجندهم روسيا أو تسعى إلى تجنيدهم في هذه الحرب.

وتدق هذه الظاهرة جرس إنذار جديداً يتمثل في ظاهرة “العائدين من أوكرانيا”، والخبرات التي سوف تحصل عليها هذه المجموعات، وأدوارها المستقبلية في حالة العودة ليس فقط إلى بلدانها، وإنما إلى مناطق الصراع بشكل عام، لاستكمال دورة أوسع من الفوضى في المنطقة ومحيطها. وقد لا ينطوي الأمر على طابع أيديولوجي، حيث يظل من السهولة بمكان تجنيد المقاتلين بالأجر لصالح جماعات متطرفة، أو جماعات متمردة أو الحروب والصراعات القائمة بشكل عام، وهناك الكثير من الدول المرشحة لهذا الوضع في المنطقة العربية والساحل الإفريقي.

أنماط جديدة

إجمالاً، من المتصور أن هناك أنماطاً جديدة من الأزمات على المسرح الدولي استقطبت المنطقة بطبيعة الحال، أو وضعتها في معادلة الأزمة بشكل أو بآخر، وهو ما يفرض إيجاد آلية عمل مشتركة للتعامل مع كافة الملفات التي تفرضها هذه الأزمات الجديدة أو تداعياتها، خاصة وأنها ستكون أزمات وتداعيات ممتدة في المستقبل، وبالتالي لا يمكن التقليل من دور المجموعة العربية التي سعت إلى الظهور في المشهد بدور سياسي، عبر ممارسة دور الوسيط بين روسيا وأوكرانيا، لكن قد يشكل تحويلها إلى آلية تنسيقية متعددة الأطراف قيمة مضافة للعمل العربي، تكرس لخبرة إدارة الأزمات بشكل جماعي أو شبه جماعي للتقليل من الآثار المحتملة للأزمات بأشكالها المختلفة وليس فقط أزمات الصراعات والحروب.