تعكس إشعارات عمليات ضبط الأسلحة المهربة إلى مناطق النزاعات المسلحة، وتقارير الخبراء الأمميين، محدودية فاعلية قرارات الأمم المتحدة التي يتم إصدارها بشكل فوري عقب اندلاع تلك النزاعات، لدرجة أن المبعوثة الأممية إلى ليبيا ستيفاني وليامز اعتبرت أن قرار حظر الأسلحة إلى ليبيا (1970 لعام 2011) تحول إلى “مزحة” خلال معركة طرابلس (2020-2021)، في الوقت الذي أشارت فيه تقارير رصد حركة الأسلحة إلى وجود أكثر من 30 مصدراً لتهريب الأسلحة إلى ليبيا، على مستوى الأفراد والمجموعات المسلحة. وفي اليمن، كشفت تقارير حكومية مؤخراً عن تنامي أنشطة التهريب عبر المنافذ الحدودية الساحلية، كما ألقت تقارير دولية الضوء على وجود مصادر أخرى للأسلحة تصل إلى اليمن من أمريكا اللاتينية بتمويل إيراني. وقد بدا أن هذه القضية باتت تحظى باهتمام خاص على المستوى الدولي، حيث تعهد مرشح الرئيس الأمريكي لمنصب سفير لدى اليمن ستيفن فايجن، في 5 مارس الجاري، بالعمل على تعزيز حظر الأسلحة في اليمن لوقف تدفق السلاح لمليشيا الحوثيين، وفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي. وقال فايجن، خلال جلسة استماع عقدتها لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ للمصادقة عليه في منصبه: “يجب أن يكون تعزيز إنفاذ حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على اليمن لقطع تدفق الأسلحة إلى الحوثيين، أولوية”.
ولا تقتصر إمدادات الأسلحة الإيرانية على وكلائها الإقليميين، فقد تم تهريب أسلحة إيرانية إلى منطقة القرن الإفريقي من أبرزها الصومال مؤخراً، وهو ما يشير من جانب آخر إلى أن مناطق النزاعات ليست نهاية المطاف لحركة الأسلحة، بقدر ما تمثل مراكز لعبورها إلى نقاط أخرى ساخنة ومشمولة بالحظر الأممي ذاته، على نحو يبدو جلياً في حالة ليبيا التي أصبحت معبراً رئيسياً للأسلحة إلى دول الساحل والصحراء.
أسباب مختلفة
يقيم خبراء الأمم المتحدة محدودية فاعلية قرارات الحظر بناءً على العديد من الأسباب التي يتمثل أبرزها في مصالح القوى التي تنتهك حظر الأسلحة في استدامة النزاعات المسلحة وتأجيجها من مرحلة إلى أخرى، وميل موازين قوى التسلح لصالح المليشيات أو قوى التمرد التي تورد إليها الأسلحة، وهو مثال واضح في حالات اليمن وسوريا والعراق وليبيا والصومال، بالإضافة إلى أن عمليات تهريب الأسلحة تُمثل -في الوقت ذاته- أحد أهم موارد أمراء الحروب. ففي صنعاء تهيمن المليشيا الحوثية على تجارة الأسلحة للأفراد، في حين تعد عملية اقتناء السلاح ثقافة أو تقليداً يمنياً ولا توجد ضوابط قانونية فعلية لاقتنائه، فضلاً عن غياب سلطة الدولة وانهيار أو ضعف أو تفكك المنظومة الأمنية التي يفترض احتكارها للسلاح وقيامها في الوقت ذاته بضبط حركته والحيلولة دون تهريبه.
وإلى جانب ذلك، فإن هناك تحديات عديدة تواجه جهود تطبيق القرارات الأممية بفرض حظر على الأسلحة في مناطق الصراعات، يمكن تناولها على النحو التالي:
1- تراجع تأثير الآليات العملياتية: يساهم غياب أو محدودية وجود الآليات العملياتية في تراجع القدرة على تطبيق قرارات الأمم المتحدة لحظر الأسلحة، حيث توجد فرق محدودة لمراقبة بعض المنافذ الرئيسية في بعض الحالات كما هو الوضع في ميناء الحديدة في اليمن، بينما تنشط في نقاط ساحلية أخرى كما هو الوضع في سواحل حضرموت، في حين لا يطبق الأمر ذاته، على سبيل المثال، على خطوط الحدود ما بين الدول، حيث تترك عمليات التفتيش لقوات حرس الحدود، كما هو الحال بالنسبة للحدود الإيرانية-العراقية أو الحدود العراقية-السورية، وهى حدود يصعب ضبطها بالنظر لسيطرة فصائل ومليشيات مسلحة عليها، أو بالنظر لعدم قدرة نشر قوات حدودية كما في حالة ليبيا، نتيجة محدودية القوات، واتساع الحدود، وانتشار جماعات التطرف والتمرد. وفي مقابل ذلك، تقوم بعض دول الجوار بتأمين الحدود من جانبها، كما هو الحال بالنسبة لمصر والجزائر وتونس على اعتبار أن عمليات تهريب الأسلحة تشكل تهديداً لأمنها القومي، لكن هناك سيولة في الحدود الجنوبية مع السودان وتشاد والنيجر، إلى حد كبير، نتيجة الأوضاع السياسية والأمنية في تلك الدول والتي تنعكس بطبيعة الحال على قدرتها في السيطرة على الحدود من جانبها.
2- تزايد قدرة المليشيات على التحايل: ظهرت بعض العمليات الدولية لمراقبة حظر الأسلحة، مثل العملية “إيريني” في شرق المتوسط، والتي أقرتها الأمم المتحدة لمراقبة حظر الأسلحة إلى ليبيا، بعد انتهاء العملية “صوفيا”، أو ربما فشلها. كما تقوم القيادة المركزية الوسطى الأمريكية في الخليج بعمليات مراقبة تهريب الأسلحة إلى اليمن، ضمن مهامها الأمنية في المنطقة، وبالتعاون مع بعض الدول المعنية بالأمن فيها. لكن تظل هذه العمليات محدودة الفاعلية أيضاً بالنظر إلى طرق وأساليب التحايل الممنهجة، بل وابتكار أساليب متطورة وتقليدية أحياناً مثل عمليات التهريب في قوارب صغيرة أو عبر شحنات تجارية مسموح بمرورها عبر الموانئ كما جرى في منفذ المهرة اليمني مؤخراً.
3- تأسيس تحالفات وشبكات للتهريب: كشفت التقارير الدولية عن أن عمليات تهريب ونقل وتجارة الأسلحة لا تقتصر على قوى التمرد والأفراد في مناطق النزاعات، بل إن شبكات التهريب كشفت عن تحالفات جديدة ما بين قوى التمرد وجماعات التطرف والجريمة المنظمة بشكل عام. فقد أشارت صحيفة “ستامبا” الإيطالية، على سبيل المثال، إلى أن المافيا الإيطالية قامت عام 2017 بمبادلة فرع تنظيم “داعش” في ليبيا بشحنات من الأسلحة مقابل الحصول على رأس تمثال أثري من العهد اليوناني، وكانت هذه التجارة نشطة للغاية حينما كان التنظيم ذاته يسيطر على أجزاء من العراق وسوريا، حيث تمّ بيع آثار أحياناً مقابل الأموال، وأحياناً أخرى مقابل السلاح. وقدّرت تقارير إيطالية حجم تجارة الآثار سنوياً بما بين 150 إلى 200 مليون دولار لصالح تنظيم إرهابي واحد فقط هو “داعش”، ناهيك عن تجارة النفط المهرب أيضاً مقابل السلاح من كل من ليبيا وسوريا والعراق. وكشفت تقارير أمريكية أن نشاط تهريب الأسلحة مقابل النفط الذي تورط فيه الحرس الثوري الإيراني كان هو الأكبر والأكثر عائداً. وفي حالات أخرى، تمت عمليات مبادلة الأسلحة مقابل صفقات من المخدرات في كلٍّ من اليمن وليبيا والعراق. كما يتعامل مهربو الأسلحة مع مهربي البشر في عمليات غسيل أموال، أو تأمين عمليات عبور الأسلحة بين النقاط المختلفة. بل ومن اللافت للانتباه تنامي مؤشرات تهريب المخدرات إلى دول النزاعات بالتوازي مع تزايد مؤشرات تهريب الأسلحة.
4- عدم التجاوب مع المبادرات المطروحة: تطلق الأمم المتحدة العديد من المبادرات لجمع الأسلحة، كما تشجع مبادرات من هذا النوع مثل مبادرة “إسكات البنادق” التي أطلقها الاتحاد الإفريقي لجعل القارة منطقة خالية من النزاعات بحلول عام 2020 ثم تمديدها لعقد آخر (2030). إلا أن التجربة كشفت أن الاستجابة لمثل هذه المبادرات محدودة للغاية، وربما تقتصر على الحالات التي نضجت فيها مشروعات التسوية السلمية. ومن المؤكد أن الفاعلين من غير الدول وشبكات التهريب لن تلتزم بها، في حين لا توجد مبادرات محلية في دول الأزمات والنزاعات. ففي اليمن هناك 3 أسلحة تقريباً لكل فرد بمعدل يتجاوز 60 مليون قطعة سلاح، وفي ليبيا قدرت الأمم المتحدة وجود 29 مليون قطعة سلاح في عام 2020، وأشارت تقارير تتبع لمجموعة الأسلحة الصغيرة الدولية إلى مدى نشاط تجارة السلاح للأفراد عبر شبكة الإنترنت وانعدام وجود أى حواجز ما بين البائع والمشتري، وكانت ليبيا صاحبة النصيب الأكبر من هذه التجارة منذ عام 2011.
أزمة مزمنة
في الأخير، من المتصور أن قرارات ومبادرات الأمم المتحدة للحد من التسلح لا تتعدى الدور السياسي للمنظمة الدولية، حيث تفتقر إلى آليات تنفيذية فعلية، كما أن بعض المساهمات الدولية في هذا السياق تقابل على الجانب الآخر بوسائل وحيل من دول أخرى تجد مصلحة في استدامة الصراعات. لكن الأخطر من ذلك هو أن هناك حصة كبيرة من عمليات التهريب تتحكم فيها المافيات الدولية التي تدير شبكات الجريمة المنظمة، ولا يعتقد أنه يمكن الحد من تلك الأنشطة في ظل استمرار تدهور البيئة الأمنية في الإقليم، وعدم قدرة الدول التي تشهد صراعات ونزاعات مسلحة على إحكام حدودها، أو إعادة بناء قوتها العسكرية.