خلال مقابلة مع قناة “سي إن بي سي” الأمريكية، بثت مقتطفات منها 24 يونيو، كشف العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، عن دعمه وحماسه لفكرة “تحالف عسكري”؛ وتحدث عن إمكانية بناء حلف يضم الدول “ذات التوجهات المتشابهة”، مع تحديد “طبيعة الأدوار”، في إشارةٍ إلى الخطر الإيراني الذي كان قد نبّه إليه قبل 20 عاماً، حينما أشار حينذاك إلى ما أطلق عليه “خطر الهلال الشيعي”.
ورغم أن العاهل الأردني أكد على أن دعم بلاده لفكرة الحلف العسكري مشروط بأن تكون “مهمة التحالف واضحة جداً”، ورغم تأكيده بأنه من أوائل الداعمين لـ”ناتو جديد في المنطقة”؛ فقد أشار إلى ضرورة أن تكون الرؤية وبيان المهمة بمثل هذا التحالف العسكري “واضحة جداً، ويجب أن يكون دوره محدداً بشكل جيد، وإلا فإنه سوف يربك الجميع”.
تساؤلات مفتوحة
لم تمر ساعات على إعلان العاهل الأردني عن تأييده إنشاء حلف “ناتو شرق أوسطي”، حتى ظهرت على السطح عشرات التساؤلات، مثل: ما هي الدول الأعضاء المتوقع انضمامها إليه؟ وهل ستكون إسرائيل إحداها؟ وماذا يستهدف هذا الحلف العسكري؟ بل إن البعض طرح تساؤلاً حول طبيعة ودور القواعد العسكرية الأمريكية الـ”12″، المنتشرة في الأردن، في هذا الحلف(؟).
أضف إلى ذلك ما شهدته الساحة الإعلامية من عددٍ من التفاعلات المتباينة، سواء في الداخل الأردني أم في الإعلام العربي عموماً، خاصة مع ربط الكثيرين بين دعوة العاهل الأردني لإنشاء حلف في المنطقة، وبين ما نشرته وسائل إعلام أمريكية وإسرائيلية عن نية الولايات المتحدة دمج الدفاعات الجوية الإسرائيلية مع المنظومات الدفاعية لعدد من الدول العربية، بهدف مواجهة التهديدات الإيرانية، وذلك بموجب قانون مقترح من الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
وهذا القانون، بحسب صحيفة “وول ستريت جورنال”، قبل عدة أيام، يمهل وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) 180 يوماً لتقديم استراتيجية لنظام دفاع صاروخي متكامل لإسرائيل و”تسع” دول عربية؛ هي، بحسب المقترح، دول مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى الأردن والعراق ومصر.
وفيما يبدو فإن هذا المقترح الأمريكي ليس وليد المرحلة الراهنة؛ إذ إن وزير الخارجية الأمريكي السابق جورج بومبيو، في إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، كان قد دعا قبل ما يزيد على أربعين شهراً، في 14 فبراير 2019، إلى تأسيس تحالف إقليمي عسكري يُعرف باسم “تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي”، أو اختصاراً بكلمة “ميسا” (MESA)، حيث كان مقترح إدارة ترامب -حينذاك- أن يضم هذا التحالف دول مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى الأردن ومصر، والولايات المتحدة الأمريكية.
وهكذا، وفي حين يرى البعض أن تزايد الحديث عن إنشاء “ناتو شرق أوسطي” إنما يتزامن مع اقتراب زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المملكة العربية السعودية، منتصف يوليو الجاري، وهي القمة التي سوف يحضرها عدد من قادة دول المنطقة؛ يرى البعض أن فكرة هذا التحالف موجهة بالأساس ضد إيران، وذلك عبر “إدماج إسرائيل كقوة عسكرية” في المنطقة.
دوافع أمنية
لعل تأييد العاهل الأردني لإنشاء “حلف عسكري”، والإعلان عنه قبل أيام من زيارة بايدن إلى المنطقة، يعود إلى عدد من الدوافع، سواء السياسية أو الأمنية، أهمها ما يلي:
1- القلق من الخطر الإيراني في المنطقة، إذ إن هذه ليست المرة الأولى التي يعبر فيها الملك عبدالله الثاني عن قلقه من هذا الخطر، فقد تحدث العام الماضي (2021)، خلال مقابلة مع شبكة “سي إن إن” الإخبارية الأمريكية، عن تعرض بلاده للهجوم بطائرات من دون طيار “إيرانية الصنع”، فضلاً عن إشارته، في مايو الماضي، إلى احتمال تصعيد عسكري على الحدود مع سوريا، في ظل الحشود والتعزيزات المتواصلة للمليشيات الإيرانية، ومجموعات من حزب الله اللبناني، ومليشيات “أبو الفضل العباس”، ولواء “فاطميون”، جنوب سوريا على مقربة من الحدود الأردنية.
2- التحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، وما نجم عنها من تصاعد تهديدات قائمة، و/أو بروز تهديدات جديدة، أدت ربما إلى إعلان العاهل الأردني عن تأييده لإنشاء “حلف عسكري” في المنطقة ودعوته إليه؛ وهي الدعوة التي تتواكب مع اللقاءات والزيارات التي تشهدها المنطقة منذ عدة أشهر، ويشكل “الهاجس الأمني” جزءاً جوهرياً ومهماً من نقاشاتها وتفاعلاتها.
3- مواجهة التحديات الأمنية والاستراتيجية التي تستهدف بعض دول المنطقة، وكما يبدو فإن هذه الدول لا تمتلك من وسائل القوة الشاملة ما يمكنها من صد التهديدات التي تتعرض لها، بسبب وجود مصادر تهديد تمثلها قوى طامعة وطامحة إلى فرض نفوذها. وحيث إن الأردن إحدى هذه الدول، تأتي الدعوة الأردنية بمثابة محاولة للتعامل مع الإشكال الأمني القائم على الحدود، خصوصاً بعد أن قرر الأردن -كما يبدو- تغيير قواعد اللعبة في مواجهة النفوذ الإيراني، وبعد أن تجاهلت طهران التحذيرات التي أطلقتها عمان خلال الأشهر الأخيرة، بضرورة ابتعادها هي ومليشياتها عن الحدود.
إشكاليّات هيكلية
رغم هذه الدوافع وغيرها التي تقف وراء الدعوة الأردنية إلى “حلف شرق أوسطي”، إلا أن عدداً من الإشكاليات الهيكلية تمثل معوقات أساسية أمام إنشاء مثل هذا الحلف، لعل من بينها ما يلي:
1- الخبرة التاريخية لفشل التحالفات العسكرية في المنطقة، حيث إن الخبرة التاريخية لمنطقة الشرق الأوسط تكشف عن فشل كافة مبادرات تشكيل التحالفات الأمنية والدفاعية العسكرية خلال العقود الفائتة، بدءاً من محاولات تشكيل “حلف بغداد” في خمسينيات القرن العشرين الماضي، وصولاً إلى محاولة تشكيل “تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي” (MESA).
2- زيادة الاستقطاب الطائفي في مجمل الإقليم، حيث إن تدشين “ناتو شرق أوسطي”، أو “ناتو عربي إسرائيلي”، سوف يزيد من حالة الاستقطاب والانقسام في المنطقة على أسس طائفية؛ وهذا أمر له تداعياته الخطيرة على مجمل الإقليم، حيث يضع كل الشيعة العرب مع العراق وسوريا -وتقعان في الأصل تحت النفوذ الإيراني- على حدود مواجهة مع هذا “الحلف”، بما يضاعف من تعقيد المشهد الإقليمي، ويدفعه نحو حافة الهاوية.
3- تعذّر الإجماع على مواجهة إيران، إذ لا يوجد مثل هذا الإجماع، العربي والخليجي، على المواجهة، خصوصاً العسكرية، أو حتى التوافق على التعاون الأمني والعسكري مع إسرائيل. فضلاً عن الدور الذي يلعبه العراق في محاولة التقريب بين السعودية وإيران. أضف إلى ذلك أن بعض الدول المرشحة لعضوية هذا “الحلف العسكري” لديها هواجس أساسية تجاه التعاون العسكري الموسع الذي يستهدف طرفاً بعينه، والذي يعرض منظوماتها العسكرية والاستراتيجية للانكشاف تجاه أطراف أخرى.
فالعراق، كمثال، يعاني من النفوذ الإيراني في عمق مؤسساته، مما يجعله في وضع يصعب عليه المشاركة في هكذا تحالف. مصر أيضاً لديها موقف تاريخي يمثل مرتكزاً في العقيدة العسكرية لقواتها المسلحة، يتعلق برفض الانضواء في أي أحلاف عسكرية.
ملء الفراغ
ما بين الدوافع الأمنية للدعوة الأردنية لإنشاء “حلف شرق أوسطي”، والإشكاليات الهيكلية التي تعوق تدشين مثل هذا الحلف، يمكن القول إن تصريحات العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، قد يكون المقصود منها ضرورة الذهاب إلى ترتيب عربي إقليمي لملء الفراغ الناتج عن تراجع الاهتمام الأمريكي بالمنطقة من جانب، والانشغال الروسي بالحرب في أوكرانيا من جانب آخر. هذا في الوقت الذي تتطلع فيه الصين للمنافسة على أدوار سياسية وعسكرية في الشرق الأوسط.
ومن ثم فإن إشارة الملك عبدالله إلى أن هناك تصوراً بين مجموعة من الدول العربية لمساعدة بعضهم بعضاً “في مواجهة تحديات مشتركة”، تعني أن تفضيل تلك المجموعة من الدول ينصرف أكثر إلى التعاون الجماعي فيما بينها، بما يؤشر إلى ترتيب عربي يكون قادراً على التعامل المرن مع التنافس والتوتر الإقليمي بين كل من إسرائيل وتركيا وإيران. وهذا قطعاً دون إغفال أن فكرة هذا الناتو الإقليمي كانت قد طُرحت في مرات عديدة، لكنها إلى اليوم لم يتم بلورتها بشكل واضح، بما يطرح احتمال أن هذه الفكرة لن ترى النور، على الأقل في المستقبل القريب، نتيجة لاختلاف الرؤى وتباين المواقف حتى بين الدول العربية نفسها، فيما يتعلق بالهدف من هذا التحالف والمساهمين فيه.