أمر يدعو إلى الدهشة أن تسعى إسرائيل إلى تصدير صراع امتد لأكثر من قرن كامل إلى دول الجوار لتصفية قضية ملأت الدنيا وشغلت الناس وقامت بسببها الحروب وتعددت المواجهات، والنتيجة هي أن نتنياهو وحكومته من اليمين المتطرف يسعون حالياً إلى استغلال أحداث غزة الأخيرة لفرض أمر واقع جديد على حساب الدول المجاورة وفي مقدمتها مصر والأردن، وكأنما هي تريد أن تبتلع الأرض الفلسطينية بالكامل لحسابها وتصدر أطراف الصراع إلى الجانب الآخر لكي تبدو أنها قد غسلت يديها من الدماء والأشلاء وأحزان التاريخ.
في ظني أن المشكلة لا تكمن فقط في سياسة إسرائيل المعروفة والقائمة على خلق المشكلات وصنع التحديات والسعي الأعمى لسياسات ظالمة على حساب الشعب الفلسطيني والأرض العربية، إذ إن ما جرى منذ قيام حركة المقاومة الإسلامية “حماس” بتوجيه ضربة مباغتة للدولة العبرية ونحن أمام سيناريو معقد للغاية يترصد فيه الجانبان (الفلسطيني والإسرائيلي) للطرف الآخر عداءً تاريخياً دفيناً مع تراكم ضخم لخطاب الكراهية المتبادل بين قوى الاحتلال في جانب وأصحاب الأرض المغتصبة في جانب آخر.
أنا شخصياً لست من دعاة دق طبول الحرب كل سنوات عدة بين الجانبين، لكنني فقط أتطلع إلى حل عادل وشامل يسمح بالقبول النسبي لكل طرف بأن يقبل بصيغة متوازنة لصنع السلام الدائم في منطقة عانت طويلاً من الصدامات والصراعات والانتفاضات والحروب نتيجة تواصل سياسات الضم والاحتواء التي تتحول حالياً إلى سياسات العقاب الجماعي والتهجير القسري لتغيير خريطة المواجهة على حساب دول الجوار العربي.
قد يكون من المفيد أن نرصد حالياً بعض الحقائق الناجمة عن الجولة الأخيرة من الصراع الدامي، الذي راح ضحيته الآلاف من الجانبين، ومن بينهم نسبة عالية من الأطفال الأبرياء، وهنا نسجل الملاحظات الآتية:
أولاً: لقد أثبت استقراء التاريخ والبحث في أسباب الحروب أنها غالباً ما تكون انتقامية نتيجة إحساس طرف بظلم وقع عليه أو فرصة ضاعت منه وهو يفعل ذلك لكي يثأر لما جرى ويتهيأ لما هو مقبل، فهزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى هي التي أفرزت فكراً قومياً متطرفاً يفتش في أركان الجنس الآري للبحث عن مبرر تعلو به الأمة الألمانية بعد إحساس مرير بالهزيمة، وفي تلك البيئة المحتدمة ولدت النازية التي جرت ألمانيا وأوروبا إلى حرب عالمية ثانية كان حجم الدمار فيها أقوى من كل التوقعات وسقط الملايين وكان من نتائجها تبلور الفكر المتصل بالمسألة اليهودية وانتعاش الدعوة إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، لذلك فإن انعدام التوازن وغياب مفهوم العدالة في الصراعات المختلفة لا بد أن يؤدي إلى مواجهة عسكرية، فالسلم والأمن الدوليان يحتاجان إلى اقتناع كامل بأن كل طرف قد نال أكثر من الحد الأدنى من طموحاته وحقق جزءاً كبيراً من أهدافه.
ثانياً: إن الصراع العربي الإسرائيلي صراع معقد تختلط فيه السياسة بالدين ويتداخل معه التاريخ بالجغرافيا كما أنه صراع دولي بطبيعته عرف الحروب الشاملة والمواجهات المفاجئة وظل دائماً هاجساً يؤرق الملايين من العرب واليهود على حد سواء.
ما زلت أتذكر أنه بعد زيارة الرئيس الراحل أنور السادات للقدس وإلقائه خطاباً متوازناً أمام الكنيست الإسرائيلي أن جاء إلى القاهرة (أبا إيبان) وزير خارجية إسرائيل السابق وألقى محاضرة في النادي الدبلوماسي بوسط القاهرة، وربما كانت تلك هي أول محاضرة لمسؤول إسرائيلي كبير في عاصمة عربية وكنت وقتها دبلوماسياً شاباً في الخارجية المصرية وحضرت ذلك اللقاء مدفوعاً بفضول شديد ورغبة عارمة في التعرف على الطرف الآخر مباشرة بعد صراع طويل ومرير بين بلادي وإسرائيل.
استهل الدبلوماسي الإسرائيلي حديثه قائلاً، إن تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي هو تاريخ الفرص الضائعة، وشردت بذهني إلى قرار التقسيم وما تلاه من أحداث كان يمكن أن تؤدي إحداها إلى اختراق لذلك الصراع الدامي الذي شهد معارك ضارية في سنوات 1948 و1956 و1967، ثم ما تلى ذلك من حروب أصغر شاركت فيها المقاومة الفلسطينية ببسالة مشهودة.
ثالثاً: لقد دخل الصراع العربي الإسرائيلي منعطفات عدة جنح في بعضها إلى التهدئة والسلام الموقت، لكن آثار الاحتلال المستمر أشعلت دائماً نار القطيعة والعداء وجعلت المنطقة مركز اضطراب مستمر وصدام دائم حتى اختلط مفهوم المقاومة المشروعة ضد الاحتلال بظاهرة الإرهاب على الجانب الآخر، وهنا اختلط الحابل بالنابل ودخلت القضية العادلة في مأزق حقيقي نتيجة مواصلة إسرائيل لسياسة الاستيطان والعدوان والتعصب ونسي الآخر.
لقد طالب العقلاء في الجانبين بضرورة الوصول إلى نقطة يتفق عليها الطرفان وتقوم على العدالة المتوازنة فاعترف العرب في مجملهم بوجود إسرائيل وقبل بعضهم التعامل معها وتطبيع العلاقات بعد طول مقاطعة، وحسبنا أن ذلك سيؤدي إلى التهدئة وينتزع فتيل العداء ويستبعد خطاب الكراهية، لكن الذي حدث جاء مخيباً للآمال، فلقد ركزت حكومات إسرائيل الأخيرة على العلاقة بعدد من الدول العربية في محاولة لإقامة جسور التواصل معها على طريق التطبيع ولا بأس في ذلك فتلك هي حركة العلاقات الدولية والسياسات الإقليمية ولا مفر منها آجلاً أو عاجلا،ً لكن الخطيئة الإسرائيلية كانت أن حكوماتها المتطرفة ورئيس حكومتها نتنياهو تحديداً قد أهملوا جميعاً المطالب الفلسطينية والشحن اليومي الذي تختزنه الأجيال في الأرض المحتلة ضد سياسات إسرائيل العنصرية.
لم تبال الدولة العبرية من جانبها بتطور ذلك الأمر مع شحنات الغضب الكامنة لدى الشعب الفلسطيني في غزة والضفة، وتوهمت الأحزاب المتطرفة في إسرائيل أنه يمكن القضاء على المقاومة بكل أشكالها بالقطاع والضفة ما دامت هناك جسور اتصال بين إسرائيل وعدد متزايد من الدول العربية، وقد كان ذلك تقديراً خاطئاً وفهماً محدوداً لطبيعة الصراع ومستقبله حتى انتقل من مفهوم التأييد السياسي للفلسطينيين إلى مفهوم التعاطف الإنساني فقط معه.
رابعاً: إن ما جرى من أحداث أخيرة قامت بها حركة “حماس” وردود الفعل الدامية التي تلتها إنما تعكس في مجملها محنة المنطقة وعذابات الأبرياء من المدنيين في الجانبين، وقد كان من نتائج ذلك أن وقف العالم على أطراف أصابعه يشهد القصف العنيف والصراع الدامي الذي ينذر بتفجير العلاقات بين إسرائيل ودول الجوار العربي خصوصاً مصر والأردن ولبنان وربما سوريا أيضاً، إذ إن هناك إحساساً عميقاً بأن تخطيطاً قد جرى إحكامه يقترب في بعض جوانبه من صفقة القرن التي بشر بها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، ويقترب بعضها الآخر من مخططات تاريخية لتوطين الفلسطينيين خارج أرضهم الأصلية في محاولة لحل الصراع على حساب الأرض العربية تكراراً لنكبة عام 1948 ونكسة عام 1967.
خامساً: تقول الحكمة العربية (ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج) فهذا التصعيد الذي نشهده حالياً يمكن أن يكون عاملاً ضاغطاً للوصول إلى تسوية مقبولة (ولو بحد أدنى) من كل الأطراف، فما أكثر الحروب الطاحنة التي خرجت من أحشائها صفقات مقبولة للسلام والاستقرار، ولذلك فالعالم كله يرقب الجهود السلمية المنتظرة لتسوية الصراع الذي امتد طويلاً وعاناه الجميع كثيراً، دعنا نأمل أن تلتزم إسرائيل قرارات الشرعية الدولية وأن تجف الدماء التي سالت وتهدأ القلوب التي حزنت وتتوقف الدموع التي انسكبت.
دعنا نتطلع إلى شرق أوسط جديد تتوقف فيه أصوات المدافع وأزيز الطائرات وأصوات الراجمات إذا صدقت النوايا وخلصت النفوس من تراكم طويل لحقد دفين وكراهية عميقة آن لها كلها أن ترحل بمنطق العصر وحركة التاريخ وروح المنطقة التي ظهرت فيها الأديان السماوية وتعايشت مع بعضها عبر عشرات القرون!
نقلا عن اندبندنت عربية