أثار الانسحاب العسكري الأمريكي من أفغانستان حالة من الترقب والذهول في أوساط المجتمع الأفغاني، وعلى المستويين الإقليمي والدولي. فالأمر يتعلق بحدث فجائي وغير طبيعي تطرح حوله كثير من الأسئلة، بصدد توقيته، والخلفيات التي تحكمت فيه.
ومع الانهيار الذي طال عدداً من المؤسسات في أعقابه، وسيادة مناخ من الهلع والرعب الذي عكسه فرار عدد من المواطنين من البلاد، تساءل كثيرون عما إذا كانت أفغانستان كسبت من الوجود الأمريكي الذي استمر زهاء عقدين من الزمن (نحو عشرين عاماً)؟ وما هي سياقات ودواعي هذا الانسحاب؟ هل يندرج ضمن سياسات الإدارة بالأزمات و«الفوضى الخلاقة»؟ وما هي الجهات المستهدفة بإرباك الوضع في هذا البلد من جديد؟ هل يتعلق الأمر بالسعي إلى إرهاق إيران، وروسيا والصين لإرساء توازنات جديدة؟ أم إن الأمر يعبر عن الوعي بكلفة التموقع العسكري الأمريكي خارجياً، وعن خيار يندرج ضمن سياسة الانكفاء، والتركيز على الإشكالات الداخلية؟
إن التطورات المتسارعة التي تشهدها أفغانستان في أعقاب هذا الانسحاب تحيل إلى أن التدخلات الأجنبية باسم تعزيز الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان، لا يمكن أن تسهم في بناء دول حديثة بمؤسسات قوية، أو إرساء سلام مستدام، فالأمر يتعلق بتدابير وإجراءات لا يمكن إلا أن تكون في كل الأحوال في صالح القائمين بها.
إن الوجود الأمريكي في أفغانستان وعلى امتداد زهاء عقدين من الزمن، لم يسهم قط في إرساء وضع سليم يدعم الاستقرار في البلاد، وقد تبين أن الأمر يتعلق بمؤسسات أفغانية سقطت عند أول امتحان حقيقي، فيما تملك الرعب أوساط المجتمع الذي ما زال يستحضر التجربة القاسية في بداية الألفية، ما عرض طالبان في حينه لانتقادات وإدانات دولية واسعة وعزلة حقيقية. فقد حذرت المفوضة السامية لحقوق الإنسان، الحركة، من المساس بحقوق المرأة، ودعت أعضاء الأمم المتحدة إلى إحداث هيئة تعنى بمراقبة حقوق الإنسان في البلاد.
ويجد القلق الدولي المتزايد من تطور الأوضاع داخل أفغانستان تفسيره في الموقع الاستراتيجي الذي يحظى به هذا البلد، وإمكانية تأثير ذلك على موازين القوى في المنطقة، وخاصة على مستوى التخوف من توظيف الفوضى المحتملة بعد الانسحاب الأمريكي في هذا الشأن.
فالجماعات المسلحة غالباً ما تستغل بؤر التوتر عبر العالم للتموقع وتجنيد المقاتلين، وقد شكلت أفغانستان بمكوناتها الاجتماعية المختلفة وتضاريسها الوعرة، ومحيطها المرتبك، ومعضلاتها الاجتماعية، فضاء لنشاط عدد من الجماعات المتشددة على امتداد عدة عقود مضت، ويبدو أن المخاوف قد ازدادت بشكل كبير في ظل هذه التطورات.
كما يبرر هذا التخوف في جزء كبير منه، بالتحديات التي باتت تطرحها رغبة عدد كبير من الأفغانيين في الهجرة نحو فضاءات آمنة في الخارج، ما يؤشر على إمكانية تنامي ظاهرتي اللجوء والهجرة القسرية نحو الخارج، بما يضع عدداً من الدول المستقبلة أمام تحديات سياسية وإنسانية كبيرة.
على الرغم من الدعوات التي أطلقتها عدد من الدول كبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وكندا واليابان، بصدد التأني لضمان عملية إجلاء آمنة للخروج من البلاد كأساس يدعم شرعية أية حكومة في أفغانستان، أكد الرئيس الأمريكي جو بايدن، استكمال الانسحاب في موعده المعلن في 31 أغسطس الجاري، وهو الموقف الذي تصر عليه حركة طالبان من جانبها.
لم يكن القرار الأمريكي الأخير عشوائياً أو متسرعاً أو خاطئاً، وستبرز الأيام القادمة والتطورات اللاحقة أنه قرار واعٍ، اتخذ بمنطق واقعي محسوب قوامه الربح والخسارة، بغض النظر عن تداعياته الداخلية (بالنسبة لأفغانستان) والإقليمية والدولية، وهو حتماً يمهد لترتيبات جديدة ستشهدها المنطقة قريباً.
فالأمر يتعلق بأحد المؤشرات التي تبرز انزعاج الولايات المتحدة من تصاعد أدوار عدد من القوى الإقليمية والدولية، كإيران والصين وروسيا، ورغبتها في خلق بؤرة إقليمية من شأنها استنزاف هذه القوى وإرباك حساباتها في المنطقة.
ويرد بعض الباحثين والمراقبين هذا التوجه في بعض جوانبه، إلى السياسات الأمريكية الأخيرة نحو الانكفاء على الذات، والانكباب على الإشكالات الداخلية وتطوير الاقتصاد، والحد من كلفة التدخلات العسكرية خارج التراب الأمريكي، مع تزايد الانتقادات الداخلية الواردة في هذا الشأن.
يظل الترقب والانتظار هو السمة الغالبة على الوضع الأفغاني، مع سيطرة طالبان على الحكم في البلاد، على الرغم من بعض الإشارات المطمئنة التي أطلقتها قيادات الحركة تجاه الداخل الأفغاني، وتجاه المحيطين الإقليمي والدولي، من حيث الالتزام بإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية والشرطة والعمل على استتباب الأمن، وإعادة عدد من الموظفين السابقين في قطاعات حيوية كالتعليم والصحة.. إلى مهامهم، وعدم متابعة المعارضين لها، وكذا «المتمردين» الأفغان في عدد من الولايات، والتعهد بعدم الدخول في مواجهات عسكرية معهم.
يتخوف المجتمع الدولي من انهيار الوضع، الهش أصلاً، في أفغانستان، وفي غياب بديل قوي ووازن على الأرض، ولا تُخفي بعض الدول كالولايات المتحدة وروسيا مراهنتها على طالبان لإبقاء الأمور تحت السيطرة بحكم الواقع، وهو ما يثمنه البعض اعتقاداً أن هذه الأخيرة استطاعت خلال السنوات الأخيرة أن تراجع عدداً من أفكارها وتصوراتها.
ومع ذلك، وعلى الرغم من التكهنات المطروحة، والمتأرجحة بين التفاؤل تارة والتشاؤم تارة أخرى، تبقى الكلمة الفصل للأيام القادمة، فهي الكفيلة بتوضيح مسار الأحداث، وما إذا كانت إرادة الأفغانيين برغبتهم في العيش بكرامة وأمان، وإرادة القوى الدولية الحية ستنتصران، أم إن ظلالاً أخرى ستخيم مرة أخرى على البلاد والعباد.
نقلا عن جريدة الخليج