هناك نقاش دائم ومتواصل حول ممارسة السياسة والعلاقات الخارجية على أساس الواقعية السياسية، بما يعني تحديد المتاح وإعطاء أولوية للمصلحة، في مقابل اتخاذ مواقف مبدئية، والتمسك بالمبادئ المجتمعية والإنسانية في إدارة العلاقات الخارجية.
من أبرز مَن تبنوا فلسفة الواقعية السياسية في العصر الحديث، الدكتور هنري كيسنجر، وزير خارجية أميركا السابق، الذي انفتح على الصين وسعى إلى تحقيق المهادنة مع روسيا، تحت رئاسة ريتشارد نيكسون، وكان قد كتب مقالاً عن أوكرانيا يحذر فيه من مغبة، وعدم جدوى سعي الغرب إلى الفصل بين روسيا وأوكرانيا، اللتين تجمعهما روابط تاريخية وعرقية وسياسية، أي إن مفهوم المصلحة والواقعية لم يكن للمفكرين من الدول المركزية والشرقية فحسب.
في المقابل، ادعت دول غربية أنها ترهن أغلب جوانب علاقتها الخارجية باحترام مبادئ وقواعد مجتمعاتها، وعلى وجه خاص، الديمقراطية وحقوق الإنسان، باعتبارها هي الأقوم والأفضل والأكثر اتساقاً مع النمط الإنساني المطلوب في القرن الحادي والعشرين.
لم اقتنع طوال تجربتي الدبلوماسية بأن هناك علاقات خارجية تُدار حصراً على أساس أحد المبدأين دون الآخر، فهناك قواعد دولية مثل ميثاق الأمم المتحدة والتشريعات المنبثقة عنها، وأخرى وطنية، تشكل أساساً أو إطاراً للتحرك. وسعت الدول الكبرى إلى إصدار قرارات من مجلس الأمن الدولي قبل تحرير الكويت، وفرض حظر جوي على ليبيا مع اختلاف كل حالة عن الأخرى، وعلى الرغم من أن المصلحة كانت هي الدافع الأول وراء كليهما.
كما لم أجد في ادعاء الدول الغربية بأنها تتمسك بالمبادئ والقانون وحدها أي مصداقية، لأنها تغلّب المصلحة على المبدأ كلما اضطرت. كما أنها كانت دول احتلال، ولا زالت، بقيادة أميركا، أكثر الدول استغلالاً للقوة خارج حدودها. وللأسف فإن التمسك بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، على أهميتها، ليس إلا أداة وذريعة لتحقيق أهداف ومصالح جيوستراتيجية.
والحالة الأوكرانية وتصرفات روسيا والغرب تؤكد ما سبق، فاستخدام روسيا القوة العسكرية في مناطق عدة في الأراضي الأوكرانية ومطالبتها بتغيير الحكومة تحت قوة السلاح، يتناقض مع كل أُسس القانون الدولي وخطوة غير مستحبة، إلا أن هذا لا يعني على الإطلاق أن موقف أميركا والغرب من القضية الأوكرانية سليم.
برر الرئيس بوتين اعترافه بدونيتسك ولوغانسك بأن هناك مخالفات لاتفاق منسيك لعام 2014، فعقد اتفاقيات تعاون معهما وأرسل قوات لتأمينهما، باعتبار أن الحكومة الأوكرانية لم تحترم هذا الاتفاق، وأن الغرب تمادى في دعمها وتحفيزها، وهو في ذلك أصاب.
لا أبرر العمل العسكري الروسي ولن أبرره، لأن استخدام القوة لفرض أمر واقع، ممارسة كان من المفترض تجاوزها في القرن الحادي والعشرين، بخاصة من قبل دول انتقدت لجوء منافسيها في الغرب إلى ذلك، وإنما أُحمل الولايات المتحدة والدول الغربية المسؤولية الرئيسة في المشكلة وتفاقمها، فالغرب خالف تعهده للاتحاد السوفياتي بأن الحلف الأطلسي لن يتوسع شرقاً بعد انتهاء الحرب الباردة، فتوسع في عام 1999، ثم في 2004، عبر ضم دول من أوروبا الشرقية. وأعلنت قمة الحلف في بوخارست في عام 2008 عن النية في بحث انضمام أوكرانيا وجورجيا.
ولم يكن رد الفعل الروسي سريعاً أو قاطعاً إلا بعد قمة بوخارست، فقامت حرب بينها وبين جورجيا في عام 2008، وانفجرت الأزمة الأوكرانية في عام 2014، وضمت روسيا شبه جزيرة القرم لأغراض استراتيجية بما في ذلك حماية موانئ البحر الأسود، ودفعت باتجاه الحرب الأهلية الأوكرانية بعدما دعمت الولايات المتحدة انقلاباً استبدل قيادة أوكرانية بأخرى موالية للغرب. وبعد فترة هدوء نسبي توترت الساحة مرة أخرى في خريف عام 2021 وبداية 2022، مع تنامي خطوات غربية لتقريب أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي ضمناً، بتوفير الأسلحة والتدريب العسكري في عهد ترمب وبايدن، وكذلك توفير تركيا طائرات دون طيار للحكومة الأوكرانية.
واعتبرت روسيا أن الغرب يعمل على المساس بمصالحها من خلال ثلاثة محاور، هي توسيع عضوية الحلف والتعاون معه، وتوسيع عضوية الاتحاد الأوروبي، ونشر الديمقراطية والأسس الليبرالية، وذلك بغية التواجد سياسياً وأمنياً في الجوار الروسي، وهو ما جعلها تتخذ مواقف أكثر حدة في مواجهتها.
وأتذكر أن الرئيس بوتين قال في اجتماع جرى في عام 2014، إنه سيفرض على الغرب احترام بلاده مرة أخرى، مع التنويه بأنه لا يريد الدخول في صدام عسكري مباشر مع الغربيين.
ومنذ أيام قليلة، قبل العمليات العسكرية، دار حديث بيني وبين سفير دولة غربية دائمة العضوية في مجلس الأمن، أكد فيه أن أوكرانيا لن تحظى بحماية عسكرية من دول غربية أو بالحلف الأطلسي، وأن رد الفعل الغربي لن يتجاوز فرض عقوبات اقتصادية على روسيا. ولم يكن هذا الموقف مفاجئاً بالنسبة لي، وأؤيد تجنب الغرب الدخول في مواجهة عسكرية، وإنما لم أُخفِ استغرابي بأن يتم تحفيز الدول ثم تُترك أمام عنفوان قوة كبرى.
وتؤكد أحداث أوكرانيا أن القوة الأحادية دولياً أو إقليمياً، في غير صالح الجميع، وأن وجود توازن سياسي وعسكري في صالح الكل.
على روسيا مواجهة الخلافات السياسية والأمنية مبكراً، وقبل أن تتفاقم ويصعب تجاوزها دون عمل عسكري له تداعيات صعبة وطويلة الأجل.
ولا يتوقَع تغيير الأوضاع الروسية على الأرض في أوكرانيا كثيراً.
أما على الجانب الأميركي والغربي فهناك سعي إلى ضبط معدلات الضغط والخطاب السياسي، لا سيما بعدما فقدوا كثيراً من مصداقيتهم كداعمين للأمن وحماية الصديق.
ويجب أن يستخلص الأوكرانيون من كل هذا، أن الاعتماد على الغير لن يحقق لهم الأمن أو الأمان، وأن “التوافق الوطني” و”الحلول الوسط” هي المواقف الحكيمة والمفضلة.
وعلى أوروبا بخاصة ألمانيا، العودة إلى دورها التقليدي كـ”حكيم القارة” الداعي إلى توافق سياسي مع الشرق.
وآن الأوان أن تنشط دول العالم في وضع أُسس لنظام دولي جديد، على أساس توازن المصالح وليس القوة، فلم يعد مقبولاً أن يُدار العالم امتداداً لمنافسات الحرب الباردة ووفقاً لنظرياته، إن لم يكن لتوترات من الحرب العالمية الثانية. علماً أنه إذا قبلنا بفرض القوة على الساحة الأوروبية من جانب الولايات المتحدة أو روسيا، فلا يجب استغراب تطبيق المبدأ ذاته في ساحات أخرى من قبل قوة إقليمية.
نقلا عن اندبندنت عربية