لا يزال أنبوب الغاز الجزائري العابر للصحراء، المزمع امتداده من نيجيريا إلى سواحل المتوسط قبالة أوروبا، محل اهتمام الحكومة الجزائرية، شأنها شأن الدول الأوروبية التي تسعى إلى تقليل الاعتماد على الغاز الروسي، كجزء من العقوبات المفروضة على روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا، التي تجاوزت حتى الآن خمسة عشر شهراً.
وبالإضافة إلى محاولة الجزائر توسيع شبكة أنابيب الغاز لديها المتجهة إلى أوروبا؛ فإنّ ثمة أهدافاً متعددة تسعى الجزائر إلى تحقيقها عبر التحرك الجدي صوب إنشاء أنبوب الغاز العابر للصحراء، منها: استغلال تداعيات الحرب الروسية–الأوكرانية على أسواق الطاقة عموماً والغاز بشكل خاص، ومحاولة التقارب مع أسواق دول الساحل الأفريقي، فضلاً عن مزاحمة التمدد المغربي في عدد من الدول الأفريقية.
تنافس إقليمي
تسعى كل من الجزائر والمغرب إلى استثمار التداعيات التي فرضتها الحرب في أوكرانيا فيما يتعلق بتعزيز دورهما في مجال إمدادات الغاز، في وقت يمكن النظر فيه إلى أن مشروعى الغاز الجزائري والمغربي، وإن كانا غير متداخلين، فإنهما يصبان في مصلحة أوروبا، التي لن تكون مرتهنة لسوق واحدة.
فبالتوازي مع أنبوب الغاز العابر للصحراء الجزائري، تسعى المغرب من جانبها لإنشاء أنبوب عابر آخر يمتد من نيجيريا، عبر 11 دولة أفريقية، وصولاً إلى المغرب كمحطة أخيرة قبل أن يتوجه إلى جنوب أوروبا. وبينما تتباين فرص الإنجاز بين البلدين الجارين، انطلاقاً من أسباب تقنية تارة وأمنية تارة أخرى؛ تتواصل المحاولات الجزائرية لتفعيل مشروع خط أنابيب الغاز، للنقل من حقول شمالي نيجيريا إلى أوروبا، مروراً بالنيجر والجزائر، على مسافة 4600 كم، بما يمكن أن يُمثل ضغطاً سياسياً، ربما أكثر منه اقتصادياً، على مشروع أنبوب الغاز “الرباط – أبوجا” المغربي-النيجيري.
بل إن وزير المالية الجزائري لعزيز فايد دافع عن مشروع بلاده، والذي تسعى من خلاله لمنافسة المغرب في تصدير الغاز النيجيري صوب أوروبا، موضحاً أن أنبوب الغاز العابر للصحراء، الذي يربط نيجيريا بأوروبا مروراً بالجزائر “يُعد مشروعاً ناجعاً وقابلاً للدعم، وذا مردودية على المستويين الاقتصادي والمالي”، ومؤكداً أن مصادر تمويله لا يمكن أن تكون “إلا بنكية بشكل أساسي، ولا نستبعد مساهمة البنك الأفريقي للتنمية”.
وعبر ندوة صحفية على هامش مشاركته في الجلسات السنوية الـ58 للبنك الأفريقي للتنمية، الذي انتهت أشغاله في 26 مايو الفائت، بمدينة شرم الشيخ المصرية، أكد لعزيز فايد أن التصريح الأخير لرئيس البنك “يشكل إبداء لرغبة البنك في تمويل المشروع”، وذلك في إشارة إلى تصريح لرئيس البنك الأفريقي للتنمية أكينوومي أديسينا، عشية الافتتاح الرسمي للجلسات في شرم الشيخ، قال فيه أن أنبوب الغاز العابر للصحراء “هام جداً، وهو استثمار يحظى بدعمنا ودعم الاتحاد الأفريقي”.
دوافع متشابكة
في إطار سياستها الواقعية، ومحاولاتها الدائمة لتفعيل مكانتها كـ”فاعل إقليمي” في جنوب المتوسط، عبر الاعتماد على مواردها من الطاقة، خاصة الغاز الطبيعي؛ يأتي أكثر من دافع خلف السعي الجزائري لإنشاء أنبوب الغاز العابر للصحراء، ولعل أهم هذه الدوافع ما يلي:
1- استغلال تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية: ساهمت تداعيات الحرب في أوكرانيا على أسواق النفط والغاز، في اتجاه الأنظار الدولية، خصوصاً الأوروبية منها، إلى ضفة المتوسط، وهو ما زاد من أهمية الجزائر، ليس فقط بصفتها مورداً للغاز إلى إيطاليا وإسبانيا ودول جنوب أوروبا؛ ولكن أيضاً كـ”لاعب رئيسي”، كونها تحتل المركز الثالث في إمداد أوروبا بالغاز، بعد روسيا والنرويج.
بل إن ما يجري هناك في شرق أوروبا دفع الجزائر إلى محاولة استعادة نفوذها كـ”قوة متوسطية”، والدخول على خط عدد من الملفات الإقليمية، كالملفات الخاصة بكل من تونس وليبيا، إضافة إلى التحكم الواضح في تحديد “الموزع الرئيسي” للغاز الخاص بها في أوروبا.
2- توسيع شبكة أنابيب الغاز الجزائرية لأوروبا: تمتلك الجزائر ثلاثة خطوط أنابيب لتوريد الغاز إلى عملائها الأوروبيين، وهو خط أنابيب “ترانسميد”، الذي يمتد على مسافة 550 كم بالأراضي الجزائرية، و370 كم في تونس باتجاه إيطاليا، وخط “ميد غاز” الذي يصل مباشرة منطقة بني صاف الجزائرية بإسبانيا، بقدرة 8 مليارات متر مكعب من الغاز، ثم خط “جي إم يو” الذي يمر عبر المغرب، وهو متوقف بقرار من الجزائر.
ومن ثمّ يُعد أنبوب الغاز العابر للصحراء إضافة إلى شبكة أنابيب الغاز الجزائري باتجاه أوروبا، وفي الوقت نفسه يُعد خطاً استراتيجياً للجزائر للوفاء بالتزاماتها الدولية فيما يتعلق بصادرات الغاز، لضمان التوازنات المالية مع الاستهلاك المحلي القوي؛ إذ من المرجّح أن يتجاوز الاستهلاك المحلي بحلول عام 2023 الصادرات الحالية، وذلك بحسب مدير الدراسات السابق بوزارة الصناعة والطاقة الجزائرية عبد الرحمان مبتول، في حوار مع منصة الطاقة المتخصصة، في 27 يونيو 2022.
3- تفعيل التقارب مع أسواق دول الساحل الأفريقي: يعود الاهتمام الجزائري بمشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء إلى كونه مشروعاً تكاملياً مع مشروع آخر هو مشروع “الطريق العابر للصحراء”، الذي يُعد مساهماً رئيسياً في تفعيل المبادلات التجارية والاستثمارات بين الجزائر والدول الأفريقية. فالطريق العابر للصحراء، الذي يبلغ مسافة 10 آلاف كم، ويمر عبر ست دول أفريقية، منها اثنتان عربيتان، يأتي كمثال للتعاون والتنسيق بين الدول الأفريقية لبلوغ أهداف مشتركة، ستعود على المنطقة بنتائج إيجابية عديدة.
فمع الدول الخمس التي تتشارك فيه مع الجزائر وهي: تونس، والنيجر، ومالي، وتشاد، ونيجيريا، تبدو فكرة “الطريق” في تكاملها مع مشروع “أنبوب الغاز” الذي يمر عبر ثلاث من الدول الست التي يمر بها “الطريق”، فكرة ذات بعد سياسي تستهدف فك العزلة وتعزيز التجارة بين شمال وجنوب الصحراء (الأفريقية الكبرى)، حيث تُمثل هذه الدول الست المتشاركة في المشروع 27% من الناتج المحلي الإجمالي للقارة الأفريقية، بمجموع 25% من سكانها.
عقبات محتملة
رغم هذه الدوافع المتشابكة للاهتمام الجزائري بأنبوب الغاز العابر للصحراء، فإن ثمة تحديات محتملة تواجه المشروع، خاصةً أنه يأتي في الإطار العام للتنافس الإقليمي مع المغرب، في نقل الغاز النيجيري صوب أوروبا، ويتمثل أبرزها في:
1- التأثيرات المباشرة لملف الصحراء: دفع الخلاف حول ملف الصحراء الجزائر إلى وقف أنبوب الغاز المار بالمغرب إلى إسبانيا، وبسبب الموقف الإسباني المساند للطرح المغربي في كيفية حل المشكلة قلصت الجزائر كمية شحنات الغاز المرسلة إلى إسبانيا. وهنا، فإن ذلك يعني أن هذه المشكلة قد تؤثر بدورها على العلاقات بين الجزائر ونيجيريا في مرحلة لاحقة، على نحو سوف ينتج بدوره تداعيات مباشرة على المشروع.
2- تحديات التمويل الدولي للمشروع: ضمن التحديات التي تواجه مشروع أنبوب الغاز الجزائري، تأتي الصعوبات الخاصة بالتمويل، خاصة في ظل العقبات التي تواجه الحكومة النيجيرية لإنجاز المشروع. ولأن فكرة هذا الأنبوب تأتي، في قسم منها، في سياق إدارة التنافس مع المغرب، ومحاولة خلط الأوراق أمام أبوجا لإرباك اتفاقها مع الرباط أو تأجيله؛ فإن محاولة الجزائر لإفشال مساعي جارتها الغربية، قد تدفعها إلى دفع كل كلفة الخط الذي تقترحه على نيجيريا.
صحيح أن تصريح أكينوومي أديسينا رئيس البنك الأفريقي للتنمية، حول دعم مؤسسته للمشروع، خلال افتتاح الجلسات السنوية للبنك يؤكد إمكانية مساهمة البنك في تنفيذ المشروع؛ إلا أن عروض التمويل التي تقدم للمشاريع الكبرى لا يتم قبولها أو رفضها لاعتبارات سياسية، أو بمجرد “تصريح بالدعم”، ولكنها تعتمد على متغيرات أخرى مثل الجدوى وواقعية المشروع ومردوديته الاقتصادية والمالية، فضلاً عن مدى قدرة الجزائر على سداد ما ستحصل عليه من قرض.
3- تصاعد تهديدات الجماعات المسلحة: لعل مرور أنبوب الغاز العابر للصحراء في اتجاه الجزائر، عبر عدة مناطق غير مستقرة، سيجعله عرضة للتهديدات الأمنية، خاصة مع وجود مجموعات من المسلحين في دلتا النيجر، وهي منطقة تنشط بها الكثير من الجماعات الإرهابية، التي تسيطر كل جماعة منها على منطقة من المناطق.
مكاسب سياسية في هذا السياق، يُمكن القول إنه رغم التنافس الجزائري-المغربي على جلب الغاز النيجيري باتجاه أوروبا؛ إلا أن خط أنبوب الغاز العابر للصحراء -إذا اكتمل- سيوفر للجزائر “مكاسب سياسية” إلى جانب الفوائد الاقتصادية، بما يُعزز مكانتها في شمال أفريقيا، وفي منطقة الساحل الأفريقي بكاملها. ورغم أن الخط الجزائري هو أقصر، مقارنة بمشروع أنبوب الغاز “الرباط – أبوجا” المغربي-النيجيري؛ فهو -واقعياً- ما يزال مقترحاً يواجه إشكاليات لا تبدو هينة