قام وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بزيارة إلى العاصمة الأردنية عمّان، في 3 نوفمبر الجاري، حيث التقى العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني ووزير الخارجية أيمن الصفدي، وأشار، خلال المؤتمر الصحفي المشترك الذي جمعه مع الأخير، إلى أنّ بلاده تسعى إلى تطوير العلاقات الثنائية مع الأردن، مؤكداً تطابق رؤية موسكو مع المقاربة الأردنية لتسوية الأزمة السورية، والتي تدعو إلى ضرورة احترام قرار مجلس الأمن رقم 2254 المتعلق بتأمين سيادة سوريا ووحدة أراضيها وحق السوريين في تقرير مصيرهم، في حين اعتبر وزير الخارجية الأردني أن الوجود الروسي في الجنوب السوري هو عامل استقرار في هذه الظروف.
وقد كان واضحاً تركيز المباحثات الروسية-الأردنية، في جانب منها، على الحرب الأوكرانية، التي اندلعت في 24 فبراير الماضي، حيث تبذل موسكو جهوداً حثيثة من أجل شن حملة على المستوى الدولي للترويج إلى موقفها من الحرب والأسانيد التي اعتمدت عليها. وهنا، فإن روسيا ترى، على ما يبدو، أن تعزيز التفاهمات مع الأردن، فضلاً عن العديد من الدول الأخرى، يساعدها على مواجهة الضغوط والعقوبات الغربية المفروضة عليها. وقبل زيارة عمّان، قام وزير الخارجية الروسي بزيارة دول عديدة في منطقة الشرق الأوسط سبقت وتلت الزيارة التي أجراها الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المنطقة خلال الفترة من 13 إلى 16 يوليو الماضي.
توقيت لافت
يمكن القول إن الزيارة اكتسبت أهميتها من توقيتها، حيث أنها جاءت في خضم ظروف حساسة تمر بها روسيا، بفعل استمرار الحرب الأوكرانية، وتصاعد حدة الضغوط التي تفرضها الدول الغربية عليها، إذ وصلت الأزمة إلى درجة دفعت روسيا، في 4 نوفمبر الجاري، إلى الإعلان عن تعبئة 318 ألف شخص للخدمة في القوات المسلحة منهم 49 ألف يقومون بمهام قتالية. وقد وصف الرئيس السابق نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف العملية العسكرية الروسية بأنها “معركة مقدسة ضد الشيطان”. بيد أنه رغم مرور نحو ثماني أشهر على نشوب الحرب، فإن موسكو لم تحقق حتى اللحظة الراهنة الأهداف الرئيسية التي شنت من أجلها، خاصة في ظل استمرار الدعم الغربي لكييف، وتصاعد الارتدادات السلبية للعقوبات الغربية ضد موسكو.
وعليه، فإن روسيا سعت عبر تلك الزيارة، فضلاً عن الزيارات التي سبقتها، والتي توازت مع مشاركة الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين في العديد من الاجتماعات الإقليمية، ولقاءاته مع بعض رؤساء دول آسيا الوسطى والشرق الأوسط، إلى توجيه رسالة إلى الدول الغربية مفادها أنها لا تتعرض لعزلة دولية، وأنه رغم الضغوط والعقوبات التي تفرضها الدول الغربية، فإنها ما زالت لديها القدرة على توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها على المستويين الإقليمي والدولي.
دوافع متبادلة
في ظل استمرار تصاعد حدة الأزمة الأوكرانية، فضلاً عن تزايد الاهتمام بمتابعة ورصد التطورات التي تشهدها الحدود الجنوبية الأردنية-السورية، يمكن توضيح دوافع كلا الطرفين، لتعزيز التقارببينهماعلى النحو التالي:
1- احتواء التصعيد الإيراني-الإسرائيلي المحتمل: كان لافتاً أن الزيارة تزامنت مع الإعلان عن نتائج الانتخابات الإسرائيلية، التي أجريت في أول نوفمبر الحالي، وأسفرت عن عودة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو واليمين المتشدد إلى السلطة بعد فوزه بـ64 مقعداً من مقاعد الكنيست. ومن دون شك، فإن هذا التطور تحديداً يحظى باهتمام خاص من جانب كل من روسيا والأردن، خاصة لجهة ارتداداته المتوقعة على الساحة السورية، حيث يرجح أن تتصاعد حدة التوتر بين إسرائيل وإيران في تلك الساحة، في ظل إصرار الأولى على تقليص الوجود الإيراني بالقرب من حدودها، وهو ما يبدو أنه يمثل عاملاً يدفع الأردن نحو رفع مستوى التنسيق مع روسيا من أجل تأمين الجبهة الجنوبية.
وبالطبع، فإن الأردن تبدي قلقاً من أن أي تصعيد محتمل على الحدود الجنوبية مع سوريا، بين إيران وإسرائيل، قد يسفر عن تدفق موجة جديدة من اللاجئين. ومن هنا، ربما سعت عمّان إلى استثمار الزيارة من أجل إقناع موسكو بممارسة ضغوط على طهران بهدف تقليص وجودها المكثف في الجنوب السوري، تجنباً لاندلاع مواجهات محتملة بين تل أبيب وطهران.
2- مواجهة التحركات الإيرانية المضادة: تتابع عمّان بدقة التحركات التي تقوم بها إيران والمليشيات الموالية لها في المناطق الجنوبية، حيث ترى اتجاهات عديدة أن طهران حرصت على استغلال الانشغال الروسي في إدارة العمليات العسكرية في أوكرانيا، من أجل زيادة وجودها العسكري والاستخباراتي في المنطقة، فضلاً عن تعزيز حضور تلك المليشيات، على نحو يفرض ضغوطاً أمنية قوية على الأردن. هذا الاهتمام الأردني انعكس في تصريحات وزير الخارجية أيمن الصفدي خلال لقاءه لافروف، حيث قال أن “الوجود الروسي في جنوب سوريا عامل استقرار في ظل الظروف الراهنة”، مؤكداً ضرورة التنسيق بين الأردن وروسيا بشأن الوضع في الجنوب.
3- تأكيد محورية الدور الأردني: ربما تمثل الزيارة رسالة من جانب الأردن تفيد أنها حريصة باستمرار على توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها على المستويين الدولي والإقليمي، حتى في ظل الظروف الصعبة التي تشهدها الساحة الدولية بسبب تصاعد حدة الأزمة الأوكرانية بين الدول الغربية وروسيا، واتساع نطاق التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين حول تايوان. وفي رؤية عمّان، فإن توسيع هامش الخيارات يمثل الآلية الأهم التي يمكن من خلالها مواجهة الارتدادات التي يمكن أن تفرضها تلك التطورات على الأمن والمصالح الأردنية، فضلاً عن أن ذلك يؤكد مركزية الدور الأردني في الملفات والأزمات الإقليمية المختلفة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وتحظى باهتمام خاص من جانب القوى الإقليمية والدولية المعنية بها.
4- تعزيز الحضور الروسي في الإقليم: ترى موسكو أن العديد من دول المنطقة حرصت على تبني سياسة متوازنة إزاء الأزمة التي فرضتها الحرب في أوكرانيا، وهو ما تسعى إلى استثماره من أجل تعزيز حضورها في معظم الأزمات الإقليمية إن لم يكن مجملها. ولا ينفصل ذلك عن محاولاتها استغلال الفراغ الذي ينتجه تراجع الحضور الغربي في بعض المناطق، على غرار منطقة الساحل والصحراء، وهو ما يخدم حساباتها ومصالحها أيضاً، خاصة أنها ترى أن الأزمة مع الدول الغربية ممتدة ومفتوحة على مسارات متعددة، وربما لن تنحصر في الحرب داخل أوكرانيا فقط.
مصالح متقاطعة
على ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن كلاً من روسيا والأردن تسعيان إلى استثمار العلاقات فيما بينهما لتحقيق أهداف ترتبط بحساباتهما إزاء التطورات التي طرأت على الساحتين الإقليمية والدولية في المرحلة الماضية. إذ ترى موسكو أن تعزيز هذه العلاقات يساعد في تقليص حدة الضغوط المفروضة عليها ويدعم دورها في المنطقة، في حين تعتبر عمّان أن ذلك يمثل ضمانة مهمة لعدم خروج الوضع في الجنوب السوري عن السيطرة، ولوضع حدود للتحركات الإيرانية على الأرض داخل سوريا.