أولوية استراتيجية:
أهداف زيارة وزير الخارجية التركي للعراق 

أولوية استراتيجية:

أهداف زيارة وزير الخارجية التركي للعراق 



توجه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في 22 أغسطس الجاري، إلى العراق، في زيارة استمرت يومين، وذلك لبحث القضايا الخلافية، وتعزيز العلاقات الثنائية بين أنقرة وبغداد، باعتبارها شريكاً استراتيجياً لها في الإقليم، ومنطقة نفوذ مهمة لتركيا. وتُعد زيارة فيدان هي الأولى من نوعها للعراق بعد توليه حقيبة الخارجية في 3 يونيو الماضي. وجاءت زيارة فيدان إلى العراق في الوقت الذي تشهد فيه اهتماماً متصاعداً من قبل تركيا خلال الفترة الماضية بمحاصرة نشاط حزب العمال الكردستاني. وقال فيدان خلال لقائه نظيره العراقي: “عدونا المشترك الذي يجب ألا يسمم علاقاتنا الثنائية”، داعياً بغداد إلى “الاعتراف بحزب العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية”. وتأتي هذه الدعوة للعراق بعد مقتل خمسة جنود أتراك في 10 أغسطس الجاري خلال اشتباك مع مسلحين من حزب العمال الكردستاني شمال العراق.

تطورات مغايرة

تأتي زيارة فيدان للعراق في إطار جملة من المتغيرات الإقليمية والمحلية، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:

1- تصاعد الجدل بعد تأجيل زيارة أردوغان للعراق: سبقت زيارة فيدان حالة من الجدل في الأوساط السياسية العراقية بعد تأجيل زيارة كانت مقررة الشهر الماضي للرئيس رجب طيب أردوغان للعراق. وبحسب مراقبين وتقديرات محلية، فإن زيارة فيدان ربما تمهد لزيارة الرئيس التركي التي تأجلت بسبب تعثر المساومات التي يرغب فيها أردوغان. 

2- تمدد النفوذ الروسي في قطاع الطاقة العراقي: على الرغم من أن موسكو تتواجد بصورة لافتة في قطاع النفط بمنطقة كردستان الواقعة شمال العراق منذ العام 2017، إلا أنها تسعى في التوقيت الحالي إلى تعزيز هيمنتها في حقول النفط العراقية، من خلال توظيف التوتر العراقي الأمريكي، ناهيك عن أن ضبابية مستقبل الإمدادات النفطية المستقلة من إقليم كردستان العراق بعد توقف صادراته عبر ميناء جيهان التركي، وفر بيئة خصبة لروسيا للتحرك بثبات في الفترة الأخيرة لتكريس حضورها في قطاع النفط العراقي، وبخاصة في منطقة كردستان التي تمثل أولوية استراتيجية لتركيا. وتجدر الإشارة إلى أن حجم استثمارات مجموعات روسية كبيرة مثل “روسنفت” و”غازبروم” في قطاع الطاقة بإقليم كردستان، يصل إلى ما يقرب من 5 مليارات دولار. كما وقعت موسكو مؤخراً، مع حكومة إقليم كردستان اتفاقيات مشاركة في إنتاج الطاقة، وهو أمر يثير قلق أنقرة التي تعتبر إقليم كردستان أولوية استراتيجية لمصالحها النفطية والأمنية.

3- ازدياد حدة التنافس في انتخابات المجالس المحلية في كركوك: رغم أن انتخابات المجالس البلدية المقرر لها شهر ديسمبر المقبل في العراق، يمثل شأناً محلياً بامتياز؛ إلا أن هذا الاستحقاق يمثل أهمية خاصة لتركيا، خاصة في كركوك التي تشارك في انتخابات مجالس المحافظات لأول مرة منذ 18 عاماً. وتنظر تركيا إلى كركوك باعتبارها امتداداً عرقياً لها، فضلاً عن أنها تضم ستة حقول نفطية عملاقة تقدر احتياطاتها بنحو 13 مليار برميل. وفي ظل مخاوف تركيا من هيمنة الأحزاب الكردية المناهضة لوجودها في العراق، وبخاصة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني؛ فإن زيارة فيدان للإقليم ربما تأتي في سياق تقديم الدعم للحزب الديمقراطي الكردستاني الموالي لتركيا، والذي سيشارك في الانتخابات البلدية بكركوك بالتحالف مع الحركة الإسلامية الكردستانية وعدد من الأحزاب التركمانية الصغيرة.

4- تصاعد المواجهات مع حزب العمال الكردستاني: جاءت زيارة فيدان للعراق في ظل تصاعد المواجهات العسكرية بين تركيا وعناصر حزب العمال الكردستاني التي تتحصن في المناطق الجبلية شمال العراق، وكشف عن ذلك استهداف المسيرات التركية خلال العام الجاري عدداً واسعاً من عناصر الحزب، حيث قتل الجيش التركي، في 7 أغسطس الجاري، “مسؤولاً عسكرياً” في حزب العمال الكردستاني، وأصيب آخر إثر قصف بمسيّرة. وفي يوليو الماضي، تمكن الطيران التركي من قتل 4 عناصر من الكردستاني شمالي العراق. وفي أبريل 2023 قصفت تركيا مطار السليمانية، في محاولة فاشلة لاستهداف مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، الجناح السياسي لوحدات حماية الشعب الكردية.

5- تفاقم أزمة المياه في العراق: تأتي زيارة فيدان للعراق وسط انعكاسات أزمة المياه التى يعاني منها العراق على العلاقات بين البلدين، حيث يعاني العراق من انخفاض مثير للقلق في منسوب نهري دجلة والفرات، ويتهم تركيا بانتظام بخفض تدفق النهرين بشكل كبير بسبب السدود المبنية عند المنبع. وخلال الزيارة أعلن وزير الخارجية التركي عن توصل المحادثات بين أنقرة وبغداد إلى تشكيل لجنة مشتركة دائمة بين الجانبين بشأن ملف المياه. 

أهداف متعددة

تعكس زيارة فيدان إلى العراق جملة من الأهداف التي يسعى لتحقيقها، ويمكن بيان ذلك على النحو التالي: 

1- محاصرة حزب العمال الكردستاني: هناك مساعٍ تركية لا تستهدف فقط دفع العراق لمراجعة سياسته حيال التحركات العسكرية التركية على مناطق شمال العراق، وإنما تعزيز فرص التعاون بين بغداد وأنقرة لمحاصرة الكردستاني شمال العراق. ولذلك ركز فيدان على قضية حزب العمال التركي الكردي المعارض ومواقعه العسكرية في الداخل العراقي، والتي يتخذها منطلقاً لعمليات معادية لتركيا. وتعمل تركيا بالأساس على تفكيك الكيانات الكردية في الإقليم، وتقطيع أوصال المشروع الكردي. وهنا، يمكن فهم حرص أنقرة على توظيف احتياجات العراق لها، لدفعها نحو محاصرة حزب العمال الكردستاني، أو على الأقل غض الطرف عن الانتهاكات التركية للسيادة العراقية.

2- دفع محور التنمية: دعا وزير الخارجية التركي خلال وجوده بالعراق إلى أهمية دعم مشروع طريق التنمية الذي من شأنه تحويل العراق إلى مركز نقل. وتمثل العلاقات الاقتصادية بين أنقرة وبغداد أولوية مشتركة بين البلدين، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 15.2 مليار دولار في العام 2022، مقارنة بــ12.8 مليار دولار في العام 2021. وتسعى تركيا والعراق للبناء الإيجابي على التطور الحادث بينهما في مجال الاقتصاد، وذلك من خلال المضي قدمًا في مشروع “طريق التنمية” الذي يربط بين موانئ البصرة والموانئ التركية، والذي تُقدر تكلفته بنحو 25 مليار دولار. ويهدف المشروع إلى إنشاء خط سكة حديد جديد بطول 500 كم يربط بين ميناء أم قصر في العراق وميناء مرسين في تركيا، فضلاً عن بنى تحتية أخرى لطرق وأنظمة خدمات برية بين البلدين.

3- حل قضية التعويضات النفطية: ترتبط زيارة فيدان للعراق في جانب منها برغبة تركيا في الضغط على العراق للتخلي عن التعويضات المالية التي أقرتها المحكمة التجارية التابعة لغرفة التجارة الدولية في باريس لصالح العراق، والمقدرة بنحو 1.5 مليار دولار، وذلك على خلفية قيام تركيا بتصدير نفط كردستان من دون موافقة بغداد، وبأسعار مخفضة، وذلك خلال الفترة من 2014 وحتى 2018.

بالتوازي، استهدفت زيارة فيدان مساومة حكومة بغداد بأوراق ضاغطة في الصدارة منها ملف المياه، للعودة إلى تصدير نفط إقليم كردستان العراق عبر ميناء جيهان التركي. وحمل هذا الملف أولوية في مناقشات فيدان مع حكومة بغداد وسلطة إقليم كردستان، لاعتبارات متنوعة، منها بروز أصوات عراقية تعارض عودة تصدير نفط كردستان عبر تركيا، خاصة أن العراق قادر على تصدير نفطه عبر موانئ البصرة، كما أن الإقليم حافظ على طاقته الإنتاجية كاملة منذ توقف التصدير في مارس الماضي عبر ميناء جيهان التركي. كما أن ثمة وعياً تركياً بأن إعادة تصدير نفط الإقليم عبر ميناء جيهان، يحقق عوائد مالية هائلة لتركيا، ويضمن لها من جانب آخر توفير جانب من احتياجاتها النفطية بأسعار تنافسية. 

4- تعزيز التعاون الاقتصادي التركي العراقي: يُعد أحد أهم المخرجات التي خلصت إليها زيارة فيدان للعراق هو الاتفاق على رفع مستوى التعاون الثنائي والصداقة إلى مستوى أعلى وأعمق. وقد تمّ التباحث بشأن إقامة شراكة في مشاريع التنمية الخضراء، وتأكيد أهمية التعاون والتواصل بين البلدين في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية.

5- محاصرة التمدد الإيراني في سوريا: تأتي زيارة فيدان للعراق في ضوء محاولات تركيا تحجيم النفوذ الإيراني في الإقليم، وبخاصة في سوريا التي تمثل إحدى مناطق نفوذ أنقرة. وتعول تركيا على علاقاتها مع بغداد في هذا التوقيت لتحييد الدور الإيراني في سوريا، وظهر ذلك في اتجاه تركيا منذ 8 أغسطس الجاري نحو دفع فصائل “الجيش الوطني” الموالية لها في سوريا، بالإضافة إلى عدد من المرتزقة تمهيداً لنقلهم إلى قاعدة “التنف”، بهدف قتال المليشيات الإيرانية في شرق سوريا، وقطع خطوط الإمداد اللوجستية للعناصر الإيرانية القادمة عن طريق طهران-بيروت، عبر بغداد ودمشق، والذي يعتبر من النقاط الأساسية التي تستخدمها إيران منذ اندلاع الأزمة السورية لنقل الأسلحة والمقاتلين إلى الداخل السوري.

مرونة سياسية

ختاماً، يمكن القول إن زيارة فيدان للعراق جاءت للتأكيد على أهمية تطوير ودفع العلاقات مع بغداد، وأن تركيا رغم قضاياها الخلافية مع العراق، فإن لديها القدرة على التحرك لمعالجة هذه الملفات الشائكة أو توظيفها في تحقيق مصالحها. وبناءً على ما سبق فإن المعطيات الراهنة ترجح اتجاه البلدين نحو التطور الإيجابي خلال الفترة القادمة بما يحافظ على المصالح المشتركة للبلدين. وتجدر الإشارة هنا إلى دعوة رئيس الوزراء العراقي خلال أغسطس الجاري إلى أهمية إبداء المرونة تجاه تركيا من أجل استئناف تصدير نفط إقليم كردستان فيما يخص مبلغ التعويض الذي فرضته محكمة باريس، فضلاً عن تأكيده على أهمية التنسيق مع تركيا حيال الملفات الإقليمية المشتركة.