في شتاء عام 2008، وكنتُ في مسقط، طلبوا مني في وزارتي الأوقاف والخارجية إجراء نقاش مع المستشرق الشهير برنارد لويس الذي كان يزور السلطنة لإلقاء سلسلةٍ من المحاضرات. وقد اعتقدنا جميعاً أنّ النقاش سيكون بشأن الاستشراق وإشكالياته ومصائره، وبخاصة أنّ لويس كان وقتها أكبر المستشرقين الأحياء.
إنما لأن قضية الانسحاب الأميركي من العراق كانت كثيرة التداول في الإعلام والتصريحات الأميركية، فإنّ برنارد لويس استطرد في إجابةٍ عن العلاقة بين الاستشراق والاستعمار، وفاجأ الجميع بالقول: الاستعمار ظاهرة تاريخية كبيرة وممتدة، وقد كانت الأحكام عليه شديدة السلبية دائماً، لكنني أريد الملاحظة أن «الاستعمار» الأميركي هو أشدّ أنواعه فشلاً لجهتين: أن الأميركيين غير «محترفين» في هذا النوع من الاستيلاء، وأنهم يضعون لأنفسهم أهدافاً عاليةً مثل بناء الدول وإرساء الديمقراطية، إضافةً للدفاع عن المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة.
وهكذا يخطئون ويخطئون ويخطئون حتى إذا قاربوا «ارتكاب» الصواب بسبب التجربة، يكون جمهورهم قد أرغمهم على الخروج. هم يخرجون الآن من العراق، وسيخرجون من أفغانستان، ولا يبقى في الذاكرة غير الخسائر المادية والأخرى في أرواح الجنود، وفي المعنى الاستراتيجي! لقد أخطأ الأميركيون في أفغانستان بالذات مرتين: المرة الأولى عندما غادروها تماماً وكفّوا عن الاهتمام بها بعد سقوط الحكومة الشيوعية عام 1991، إذ ما رأوا في الاهتمام بها أية فائدة بعد الانتصار في الحرب الباردة! أما المرة الثانية فكانت بعد غزوهم لها عام 2001 لأن بن لادن هاجمهم من هناك. في تلك المرة عذَرهم ونَصَرهم كثيرون بسبب هجوم «القاعدة» على الولايات المتحدة في سبتمبر من ذلك العام.
لكن منذ عام 2004، ورغم الانهماك في غزو العراق الذي لم يكن له أي مسوِّغ، كان خبراء أميركيون كثيرون يطالبون بالانسحاب التدريجي من أفغانستان، والتي لم يخرجوا منها إلا الآن، أي بعد عشرين عاماً! في خطاب الرئيس بايدن إلى الأمة الأميركية بشأن الانسحاب من أفغانستان، قال كلاماً مؤثراً، لكنه قال أيضاً كلاماً غير دقيق. قال إنّ الأميركيين إنما جاؤوا إلى أفغانستان للدفاع عن أنفسهم ضد الإرهاب الذي هاجمهم في عقر دارهم، وقد قضوا عليه وأمّنوا بلادهم من شرِّه، وما وضعوا لأنفسهم أهدافاً غير ذلك.
وهذا غير صحيح، فقد قالت إدارة بوش الابن وقتها، إنه للمرة الأولى في تاريخ ذاك البلد هناك محاولة جادة من جانب الأميركيين لإقامة دولة وديمقراطية وتأمين لحقوق الإنسان وحريات المرأة! أما الكلام المؤثّر في خطاب بايدن فهو أنّ الذين دخلوا إلى كابل هم أبناء الذين قاتلوا السوفييت الذين غزوا بلادهم: فهل تريدون أيها الأميركيون إرسال أبنائكم لمقاتلتهم؟!
لا شكَّ في أنّ «طالبان» تريد إقامة نظام ديني تقليدي. إسلامهم غير إسلام «القاعدة» و«داعش»، وغير إسلام الصحويين أو «الإخوان». وليس من المعروف أنّ لهم نشاطاً خارج أفغانستان. وعساهم يكونون قد تعلموا من التجربة السابقة. التحدي الحقيقي لهم هو الإدارة الداخلية للبلاد، في الاقتصاد والتعليم وشؤون المرأة والطفل والعلاقات القَبَلية بين البشتون والإثنيات الأخرى. .
صحيح أنه ما ظهرت في أفغانستان خلال عشرين سنة من الوجود الأميركي مؤسسات راسخة، وأنّ الانقسامات الإثنية ستستمر، لكنّ البلاد خرجت من عزلتها ولا يمكن إعادتها إليها. لا خطر على الدول المجاورة، إنما التوجس من بقاء الداخل مضطرباً للعوامل التقليدية للاضطراب.
نقلا جريدة الاتحاد