ما القول اليوم في العلاقات الأميركية – السعودية، هل هي على ما يُرام، هل هي متدهورة وسيئة؟ هناك في أوساط الكونغرس والإعلام في واشنطن مناخ نقدي دائم لمواقف السعودية وخياراتها في مجريات السياسة الدولية، وهناك تساؤلات وأبحاث تقارن بين الأمس واليوم، وتحاول أن تفهم وتبني أفكاراً للحفاظ على علاقة قوية بين الدولتين. الأكيد أن العلاقات مستمرّة وتشهد بعض التقلّبات ويمكن أن تكون مستقرّة. لكن حذارِ، فالعلاقة الجيدة والقوية كانت دائماً تعني، بالمفهوم الأميركي، أن السعودية أو سواها من الدول يجب أن تبقى في الأطر الاستراتيجية التي تحدّدها واشنطن على المستويين الدولي والإقليمي، سواء كان ذلك منسجماً مع مصالح تلك الدول أم لا، بل إن ذلك المفهوم يفترض أن على السعودية أو سواها أن تراعي المصالح الأميركية إذا أرادت بناء أو تطوير علاقات ومصالح مع دول أخرى.
من الواضح أن السعودية قطعت في وقت قياسي شوطاً طويلاً في الخروج من هذا النمط الذي فرضته أميركا على العلاقة معها، وكانت لديها أسباب كثيرة، من أهمّها اثنان: الأول، اختلال الالتزام الأميركي تجاه أمن المنطقة، فضلاً عن نيات معلنة للانسحاب منها، وهو ما بدأ مع إدارة باراك أوباما بتسخيرها كل شيء في السعي إلى اتفاق نووي مع إيران من دون أي اعتبار لدول الجوار، وكذلك بموقفها السلبي البارد من الدوافع السعودية الاستراتيجية لحرب اليمن. واستمر هذا التوجّه مع دونالد ترامب حتى بعد ضرب منشآت أرامكو (2019)، على رغم “الدفء” الظاهري للعلاقة والانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي. كما تواصل مع جو بايدن الذي استبق دخوله البيت الأبيض بمواقف بالغة العدائية للسعودية، وأتبعه بأولوية إحياء الاتفاق النووي وفق النهج الأوبامي نفسه. والسبب الآخر، اتضاح أن واشنطن لم تعد تحتسب النفط وحمايته من أعمدة استراتيجيتها الشرق – أوسطية… وبالتالي لم يبق من تلك الأعمدة سوى التزامها “أمن إسرائيل” من دون أي التزام بحلّ المسألة الفلسطينية وما لها من انعكاسات على المنطقة.
أحاطت واشنطن زيارة وزير خارجيتها الأخيرة للرياض باهتمام كبير لم تبادلها الرياض بمثله، مع أنها استعدّت جيداً للحوار، فمنذ ما قبل زيارة بايدن (تموز/ يوليو 2022) وما بعدها، أصبح الأمر بين الجانبين يتعلّق بإدارة الخلافات أكثر منه ببلورة مبادرات مشتركة.
صحيح أن المشتريات العسكرية السعودية من الولايات المتحدة لم تتوقّف، لكن مماطلة الأخيرة وتمنعها عن توفير معدّات معينة يوجبان على الرياض البحث عن بدائل. وصحيح أن الجانبين يواصلان التنسيق العالي المستوى في شؤون الدفاع والأمن، وفي الحلول المطروحة لإنهاء حرب اليمن، كما بالنسبة إلى احتواء النزاع الداخلي في السودان، وإلى حدٍّ ما في إدارة الأزمة في لبنان، إلا أن التباعد بينهما أصبح واضحاً على أكثر من صعيد: العلاقة النفطية مع روسيا (أوبك+)، الموقف من روسيا وحرب أوكرانيا، التنافس الأميركي – الصيني المتصاعد، التطبيع السعودي مع إيران وما استتبعه من انفتاح على النظام السوري، والتطبيع مع إسرائيل.
لم تنفرد السعودية بخيارها النأي بالنفس عن الاستقطاب الدولي على خلفية حرب أوكرانيا، فهذا موقف معظم دول العالم، لكنها صوتت في الأمم المتحدة لمصلحة القرارات المبدئية. ولم يمنعها ذلك من التنسيق مع روسيا في شأن السوق النفطية ومستويات الإنتاج، فهذا يحقق مصلحتها ومصلحة بلدان منظمة “أوبك +” جميعاً. كانت سياسات الولايات المتحدة قد شكّلت دافعاً رئيسياً للدول المنتجة كي تؤسس تلك المنظمة، لذلك لم يكن لواشنطن أن تعترض على قراراتها. وكان رفض السعودية رفع الإنتاج بسبب أزمة الطاقة التي فرضتها حرب أوكرانيا، وأيضاً لدواعٍ انتخابية تخصّ حزب بايدن، أشعل أزمة حادة وتهديدات أميركية بعقوبات جرى التخلّي عنها لاحقاً. وأخيراً أعلنت الرياض خفضاً طوعياً للإنتاج النفطي بدءاً من تموز (يوليو) المقبل، ما شكّل تحدّياً جديداً قبل يومين من وصول أنطوني يلينكن في مهمة لرأب الصدع في العلاقات.
المقلق أكثر بالنسبة إلى واشنطن هو تنامي العلاقة السعودية – الصينية، ليس تجارياً ونفطياً فحسب، بل استراتيجياً إلى حدّ إهداء بكين رعاية التقارب مع إيران. أرادت واشنطن – أوباما أن تكون هذه الرعاية لها، خصوصاً بعد توقيع الاتفاق النووي عام 2015، لكن مستوى الثقة بينها وبين طهران كان جديداً آنذاك وغير كافٍ (فالاتفاق لم يسمح بدخول أميركا السوق الإيرانية)، وكان قد تدهور بينها وبين الرياض (بسبب السكوت الأميركي عن الدور الإيراني في اليمن)، ثم إن اندلاع حرب اليمن أطاح الحسابات الأميركية. لذلك بدت الصين خياراً أكثر أماناً للإشراف على التطبيع السعودي – الإيراني وضمانه، فبكين تلعب دوراً حيوياً في تخفيف وطأة العقوبات الأميركية على إيران، كما أنها منخرطة في استراتيجية انفتاح على السعودية وسائر دول الخليج، ولا تبطن كأميركا مراهنة على توسّع النفوذ الإيراني في المنطقة.
لا شك في أن السياسات والمشاريع التي اتّبعتها السعودية في الداخل والخارج خلال الأعوام الأخيرة، طوّرت لديها مفهوماً مختلفاً لأمنها وحساً متعاظماً باستقلاليتها وقدرتها على تحديد خياراتها كما تظهر مثلاً في عرضها على أميركا تسهيل مشروعها النووي المدني، وإلا فإنها ستلجأ إلى مصادر أخرى. في المقابل، تحاول واشنطن فهم الأمر الواقع السعودي الجديد والتكيّف معه، ولعلّها تعتبر أن المتغيّرات المتسارعة لم تلغِ الهواجس الأمنية لدول المنطقة، وبالتالي فهي لا تزال تحتاج إلى وجود أميركي، خصوصاً أن مناخ السلام وحسن الجوار – إذا كان له أن ينشأ فعلاً مع إيران – فإنه يتطلّب زمناً طويلاً قبل أن يصبح حقيقة. لذلك تريد واشنطن استباقه وربما تعطيله، وتجد في الممارسات الإيرانية في مياه الخليج ذرائع كافية. وفيما يُحاط الوجود الأميركي نفسه حالياً بكثير من الشكوك وعلامات الاستفهام الخليجية حول جدواه وفاعليته، يبدو أن مهمة بلينكن استهدفت من جهة عرض إجراءات لتصحيح الثقة المهتزّة بالقوّة البحرية المشتركة، ومن جهة أخرى تجديد عرض إنشاء “نظام دفاعي مشترك مع دول الخليج، ومنح إسرائيل قدرة أكبر في المنطقة” (وفقاً للسيناتور روبرت مينينديز).
ثمة مشروع قانون أميركي في الاتجاه نفسه يُدرس حالياً ويتعلّق بـ”التعاون البحري مع دول اتفاقات أبراهام”، بهدف زيادة دور الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة. هذا ما يفسّر إلحاح إدارة بايدن على التطبيع بين السعودية وإسرائيل، وعلى “دمج” الأخيرة في المنطقة، في الوقت الذي تبدي فيه عجزاً، بل تحجم عن طرح عن أي مبادرة لـ”معالجة القضية الفلسطينية أولاً”، بحسب تعبير وزير الخارجية السعودي الذي قال أيضاً إن التطبيع مع إسرائيل “يصبّ في مصلحة المنطقة”.
نقلا عن النهار العربي